طالعتنا الأخبار اليومية عن واقعة انتحار شاب فى مُقتبل العُمر تاركًا رسالة مُسببْة لسوء معاملة والده، وانتحرت أمس فتاة بقفزها من الدور السادس بعد تعدد المُشادات مع والدتها ولعل قضبان المترو والسكة الحديد قد شهدت حوادث انتحار شبه يومية العام الماضي، وقد تحول فعل الانتحار إلى بث مباشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي! حيث فقد أرباب تلك المواقع في الفترة الأخيرة إحساس التأثر لتعدد الحالات واعتيادها؛ فمنهم من يترحم والكثير منهم يُنصْب نفسه إلها وتبدأ تعليقات الفتاوى والاتهام بالكُفر والخروج من الملْة عاقدًا مشهدية المنتحر في النار!.
قد يكون المُنتحر مريضًا وهو أقرب شخص إليك فى عائلتك أو فى محيط أصدقائك؛ فالمُنتحر شخص تكالبت عليه العوامل وساقته إلى هذا القرار فلم يُعمِل العقْل لوهلة وأقدم على الفعل، فالاكتئاب الحاد كمرض هو أحد أسباب الانتحار الأكثر شيوعًا حيث يتخِذ المريض القرار بغتْة أو بفترة وجيزة من الفعل دون سابق إنذار ترجمة لمُعاناته من الألم العاطفي المُضاعف عن غيره من الأشخاص الطبيعيين مصحوبًا بالشعور بالعجز أمام فُقدان الأمل ولا يختلف عنه مريض الفُصام والذُهانْ حيث يتعرض هذا الأخير للهلاوس السمعية التى تأمره بالإتيان بالفعل وتحرضه على قتل نفسه، وهكذا مرض الاكتئاب ثُنائي القطب الذي يعاني فيه المريض من نوبات حادة من المزاج المرتفع والمنخفض الأكثر حِدة مع فقدان الشهية أو الشره المرضى كما كان الحال مع العظيم صلاح جاهين .
فالإجهاد العاطفي المؤلم والعاصْف فى صورة التعرض للاغتصاب أو التنمُر المجتمعي المُتكرر وسوء المعاملة سواء من الأهل أو المُحيطين يُعَد من أهم أسباب شعور الفرد بالعجز واليأس ويدفعه للانتحار مدفوعًا بهشاشة روحه، كذلك المدمن للمخدرات أو الكحول هو من نماذج الاندفاع نحو الانتحار حيث يتصرف بناء على رغباته وبلا رصانة، نضِف لنماذج المنتحرين من يعانون من البطالة والمشاكل المالية وفُقدان المركز الاجتماعي والفشل الدراسي والاعتقال والسجن وكلها عوامل تدفع لليأس سواء على المدى القصير أو الأمدْ الطويل حيث يواجه الشخص تحديًا اجتماعيًا وجسديًا ولا يرى بصيص أمل من تحسن وضعه ولا يقل عنه فى اليأس المريض مرض جسدى مُزمن؛ حيث يحمل هذا الشخص بالإضافة إلى الآلام الجسدية ألم اكتئاب اليأس من الشفاء وألم العبء على المُحيطين .
الانتحار كلمة صادمة وفعل مكروه ولكن كل منا يقيس الفعل من منظوره ومن زاوية معاناته الحياتية ولا يلتفت إلى المُحيط بالفاعل من عوامل ومرض وإذا قدّر البشر ظروف أخيه البشر فسيكُف عن لسانه لفظ كافر للمُنتحر؛ حيث أوضحت دار الافتاء أن الإتيان بالفعل حرام شرعًا من مُنطلق قول العلى القدير (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا) حيث عُدْ الفعل من الكبائر إلا أنه لا يُصنِف صاحبه خارجًا من الملْة بل يظل على دينه ويُغسْل ويُدفَن طبقًا لأحكام شريعته .
أوصانا الرحمن الرحيم بعدم إزهاق الروح فهى ملكه ومن أمره وحماية النفس حتى بعدم إتلاف عضو من أعضاء الجسم - فهو مطلْب سماوي- لذا ننادى بضرورة تكاتف الجميع من باب تجديد الخطاب الدينى الذى نادت به القيادة منذ فترة بضرورة مُعالجة ضعف الجوانب الدينية لدى الكثير من خلال نشر الوعظ الدينى وإعلاء ثقافة تَحمُل البلاء والصبر والرضا عند القضاء والقدر مستشهدين بالأنبياء أشد عباد الرحمن ابتلاءً، كما يجب توجيه خطاب توعوى للأسر المصرية -آباء وأمهات- بعدم تعمد القسوة والقهر مع أبنائهم سواء من باب التربية والتأديب كمنهج وموروث بائد بلا فائدة أو من باب تنفيث ضغوط الحياة فى الأبناء حيث يتحمل هؤلاء وزر مشاكل الآباء الشخصية أو المادية، كما ننادى بتفعيل وظيفة ( المُشرف الثقافى) المُفعلة فى كل دول العالم والتى تتبنى مسئولية رصد مشاكل الشباب والظواهر السلبية المُحيطة بهم مع تنظيم حلقات نقاشية جماعية توعوية لمواجهة المشاكل وطرح الحلول.
لا تمدح المُنتحر ولا تذمه، فقط كُف لسانك عنه، فلا يعلم الغيب إلا الله ولا تعلم من القادم فى دائرة الاكتئاب أو غدر الحياة؛ فعل دينك السَمِح فى قلبك واطلب الرحمة للجميع واصبر عند الابتلاء فهو منحة ربانية، نسأل الله أن يُحسن خاتمتنا جميعًا.