تدفع الولايات المتحدة ثمنا باهظا للطريقة الفوضوية التي تنسحب بها من أفغانستان ، لكن القلق الحقيقي بالنسبة للعديد من المحللين كان الاحتمالات طويلة المدى بأن تملأ الصين الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة وتوسع نفوذها الجيوسياسي في المنطقة.. غير أن الولايات المتحدة ليس لديها الكثير لتخشاه بشأن إمكانية تحويل الصين جارتها (أفغانستان) إلى دولة تابعة، إذ إن الأرجح هو أن بكين ستواجه المصير نفسه مثل العديد من الإمبراطوريات الأخرى التي حاولت تشكيل أفغانستان على صورتها الخاصة، وإن السياقات الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية كلها ضد بكين .
وذكرت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية أن الاقتصاد الأفغاني تم تدميره بالكامل بعد أربعة عقود من الحرب. فوفقا للبنك الدولي، بلغت قيمة إجمالي الاقتصاد الأفغاني في عام 2020 نحو 19.8 مليار دولار فقط، ما يجعله أصغر من أي شركة من شركات قائمة "فورتشن 500" التي تصنف أكبر 500 شركة أمريكية خاصة وعامة من حيث إجمالي الدخل. وبالنسبة لبلد يبلغ عدد سكانه 39.9 مليون نسمة، فإن ذلك يتم ترجمته إلى نصيب ضئيل للفرد يبلغ 509 دولارات فقط .
والمثير هو أن ضجة كبيرة أثيرت قبل عقد من الزمان – وفقا للمجلة الأمريكية- عندما قدر المسؤولون الأمريكيون أن أفغانستان لديها كنز قيمته تريليون دولار من المعادن، بما في ذلك الليثيوم والمعادن النادرة. وقد ضاعف البعض هذا التقدير ثلاث مرات. ومن المحتمل أن يكون هذا مجرد دعاية، ولكن حتى لو كان ذلك صحيحا على الورق، فإن أفغانستان تفتقر إلى البنية التحتية والاستقرار السياسي والعمالة الماهرة لاستغلال هذه الموارد بشكل فعال، في حين أن هناك العديد من المناطق الأخرى بنفس الموارد ولكن ظروفها أفضل بكثير للمستثمرين الأجانب.
وفي ظل قلة الأصول الإنتاجية، كان اقتصاد أفغانستان يعتمد بشدة بالفعل على توفير الولايات المتحدة للدولارات لإجراء المعاملات الدولية والمساعدات الخارجية. وفي أعقاب سيطرة حركة طالبان على السلطة، جمدت الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى وصندوق النقد الدولي الكثير من احتياطيات وحسابات الحكومة الأفغانية. ودفعت مخاوف المستهلكين التضخم إلى أكثر من 50%. وربما الأهم من ذلك، النزوح الجماعي لأفضل وأذكى العقول في أفغانستان سواء أثناء عمليات إجلاء الولايات المتحدة أو الفرار من البلاد عبر وسائل أخرى، مما سيزيد من استنزاف من مواهب البلاد اللازمة والحاسمة للتنمية المستدامة والحكم الرشيد.
وبالتالي، فإن الفرص الاقتصادية المتاحة للصين هزيلة للغاية، حيث بلغ إجمالي التجارة الخارجية لأفغانستان في عام 2020 نحو 7.83 مليار دولار، والاستثمار الأجنبي المباشر ثنائي الاتجاه لا يتجاوز 50 مليون دولار، وهو بالكاد هامش الخطأ التقريبي في الرقم الاستثماري لمعظم جيرانها، ناهيك عن الصين.
كما أن بكين لم تضع الأسس لتواجد موسع لها. وعلى الرغم من بعض التقارير، فإن الصين لاعب ثانوي في الاقتصاد الأفغاني، وهي لا تحتل مرتبة أفضل من سادس أكبر شريك تجاري للبلاد، بعد باكستان والهند والإمارات العربية المتحدة وإيران والولايات المتحدة، وفقا للبيانات التي قدمها شركاؤها إلى صندوق النقد الدولي.
ووفقا لقاعدة بيانات "كومتريد" التابعة للأمم المتحدة، فإن أهم صادرات الصين إلى أفغانستان تمثلت في الإطارات، ومعدات الاتصالات الأساسية، والدراجات النارية والبخارية، والأقمشة، في حين لم تكن صادرات الولايات المتحدة أقل غرابة، حيث كانت جميعها مرتبطة بالحرب تقريبا مثل المركبات ذات الأغراض الخاصة، والطائرات المقاتلة، وقطع غيار الطائرات العسكرية، ومعدات الاتصالات، والدبابات.
وعلى الرغم من أن أفغانستان وقعت على مبادرة الحزام والطريق الصينية في عام 2013، إلا أنه لا يوجد سوى مشروعين فقط لمبادرة الحزام والطريق تبلغ قيمتهما الإجمالية 3.4 مليار دولار؛ وفي المقابل، ضخت الصين – على سبيل المثال - ما لا يقل عن 87 مليار دولار في 122 مشروعا لمبادرة الحزام والطريق في باكستان المجاورة.
وحيث أن أفغانستان هي واحدة من أقل البلدان المزودة بخدمات الاتصال في العالم، مع وجود 11.5% فقط من الأفغان لديهم القدرة للوصول إلى الإنترنت، وفقا لبيانات البنك الدولي، إلى جانب نظام الطرق المتهالك، فإن شركات مثل "علي بابا" أو "تينسنت" أو أي بائع تجزئة صيني آخر سيواجهون صعوبات كبيرة. وبالنظر إلى محدودية البنية التحتية والمخاطر الأمنية، فإن الفكرة القائلة بأن مشاريع التعدين الصينية للبحث عن الليثيوم ستكون الأولى مع مغادرة الولايات المتحدة، هي في واقع الأمر فكرة خيالية.
إن الصين تواجه – وفقا لمجلة "فورين بوليسي"- عقبات لوضع أفغانستان تحت سيطرتها، تتمثل في الفقر المدقع هناك إلى جانب التحديات السياسية الكبيرة. وعلى الرغم من أن الصين حققت نجاحا في العديد من البلدان في إفريقيا والشرق الأوسط وآسيا الوسطى، إلا أن تفاعلها مع الأنظمة المركزية يكون أفضل حيث يمكن تعزيز النمو الاقتصادي والحصول على الموارد بسهولة.
وواقع الأمر أن أفغانستان عكس ذلك تماما، حيث إن النظام السياسي هش يشرف عليه الآن ثيوقراطية شديدة المحافظة في نواح كثيرة تعارض العناصر الأساسية للتحديث. وإن عمق المعرفة المحلية وعدد المحاورين اللازمين لتحريك المشاريع في أفغانستان سيخلق تكاليف باهظة. في مثل هذه البيئة، من الصعب أن نرى كيف ستولد الاستثمارات الصينية نشاطا اقتصاديا جديدا واسع النطاق ينتج عنه عملاء جدد أو يجعل البلاد تعتمد بشكل كبير على بكين.
ومما زاد من تعقيد الأمور هو أن الشركات الخاصة الأكثر ابتكارا في الصين، والتي ستكون في وضع أفضل للتوصل إلى حلول جديدة في أفغانستان، تتعرض حاليا لحملة عدوانية لتقليص مبيعاتها. لذا، وبالنظر إلى المخاطر، سيكون عدد الشركات التي ستكون مستعدة للمغامرة في الخارج أقل من المعتاد. وهذا يترك الشركات المملوكة للدولة الأكثر طاعة وقديمة الطراز هي المتوفرة لتلبية طلبات بكين.
ويمكن بالتأكيد للشركات الصينية بناء طرق سريعة في أفغانستان، ولكن في كثير من الأحيان قد لا يرغبون في التعامل مع رد الفعل السلبي الذي قد يأتي من هجمات إرهابية محتملة على موظفيهم، خاصة من الجمهور الصيني، لاسيما وأن حوادث متفرقة في باكستان المجاورة تسببت بالفعل في إثارة القلق في الصين.
وتشير التوقعات إلى أن طالبان ستكون منبوذة دوليا، وستكون أفغانستان محرومة من سهولة الوصول إلى النظام المصرفي العالمي والأسواق الدولية. ونظرا لاحتمال تعرضها للعقوبات الغربية، فإن فرصة الشركات متعددة الجنسيات من الصين أو من أي مكان آخر ترغب في إدخال أفغانستان الحبيسة في سلاسل التوريد العالمية الخاصة بالصين، ستكون ضئيلة للغاية. علاوة على ذلك، فإن الصين ستجذب تحركات مضادة وردود فعل سلبية من القوى الكبرى المحيطة، بما في ذلك باكستان والهند وإيران وروسيا.
لكل هذه الأسباب، إذا حاولت الصين ملء الفراغ، فسوف يعاني مستثمروها وشركاتها هناك بسرعة ويعودون عبر الحدود بتجارب متواضعة.
ومع ذلك، وبخلاف فشل البريطانيين والروس والأمريكيين، ربما يكون لبكين لمسة سحرية. إذا تمكنت الصين بمعجزة من تغيير الأمور، وإرساء البنية التحتية التي يتم استخدامها بشكل فعال من قبل المنتجين والمستهلكين، فقد يوفر هذا لأفغانستان قدرا من الاستقرار. ولن يكون ذلك كارثة لواشنطن، حيث إن أفغانستان النامية، حتى لو كانت بأموال بكين وتحت نفوذها، لن تكون عند ذلك ملاذا للإرهاب.
وبغض النظر عما تفعله بكين، سواء تعثرت في تحقيق ذلك وهي (النتيجة المرجحة) أو كانت لديها التركيبة السحرية ونجحت، فإن واشنطن ستستفيد في كلتا الحالتين. والواقع في نهاية المطاف يشير إلى أن دور الرئيس الصيني "شي جين بينج" (في أفغانستان( قد حان.