الأعمال الفنية العظيمة، وأعمال نجيب محفوظ تندرج تحت هذا الصنف من الأعمال، يمكن النظر إليها من عدة مستويات.. وإذا أردنا أن نتحدث عن رواية «الطريق» لنجيب محفوظ، فهناك طريقتان لقراءة هذه الرواية، وكلتاهما تعطينا ما نطلبه من متعة.
الطريقة الأولى هي أن ننظر إلى رواية «الطريق» بوصفها قصة عادية لشاب وسيم فاسد الخلق سيئ الحظ على طول الخط؛ لأنه ابن امرأة فاسدة تتاجر فى الأعراض والمخدرات.
ولقد قامت الأم قبل موتها بتوجيه ابنها للبحث عن أبيه الذى لم يعرفه طول حياته، وكان يعتقد أنه مات. وفى بحث الفتى عن أبيه التقى فتاتين جميلتين، حاولت إحداهما أن تمد له يد العون، وسعت الأخرى أن تدفع به إلى الهاوية، وانتهى به المطاف إلى السجن بسبب ارتكابه جريمة قتل انتظارًا لتنفيذ عقوبة الإعدام أو السجن المؤبد بعد الاستئناف أو النقض. (د. لويس عوض، أهرام الجمعة، فى 31 يوليو سنة 1964).
والطريقة الثانية فى تناول رواية «الطريق» هي أن نقول إن نجيب محفوظ لم يشأ أن يسرد حكاية ابن يسير فى طريق البحث عن أب، بل يحكى عن إنسان يسلك طريق الاهتداء إلى الرب.
إن البحث الدائب الذى يبحثه «صابر» بطل رواية «الطريق» لنجيب محفوظ عن أبيه الذى انقطعت صلته به حتى قبل ولادته، هو بحث الإنسان الدائب عن الله أو عن أبيه الذى فى السموات كما تسميه بعض الأديان. فالتساؤل عن الإله هو تساؤل فطري، فالطفل منذ نعومة أظافره يلاحق الراشدين من أفراد الأسرة الأم والأب أو الشقيقات أو الأشقاء بأسئلة ميتافيزيقية بالغة الأهمية والخطورة: «أين الله؟» «من الذى خلقني؟» فإذا كانت إجابتنا على الطفل: «الله هو الذي خلقنا جميعًا»؛ فإن الطفل يبادر بالسؤال: «ومن الذي خلق الله؟» ثم يطرح سؤالًا ميتافيزيقيًا آخر: «وما الذى كان موجودًا قبل وجود الله؟» ويسترسل الأطفال، كل الأطفال، باستثناء المعاقين ذهنيًا فى طرح هذه الأسئلة الميتافيزيقية، إلى أن يتمكن الأهل من إسكاتهم وإخراسهم بطرق شتى، كأن يصرخوا فى وجوههم حتى يكفوا عن طرح الأسئلة، أو يجيبوا إجابات بلهاء عن أسئلتهم، أو يزرعوا فى قلوبهم الفزع والخوف بزعم أن من يطرح مثل هذه الأسئلة سوف يُـلْقـَى به فى نار جهنم وبئس المصير، أو قد يضربونهم حتى يصمتوا، لكن أبدًا لا يبذلون أية محاولة جادة من أجل الإجابة عن أسئلتهم، لأنهم هم أنفسهم كآباء قد خضعوا لعمليات قمع مماثلة حين كانوا أطفالًا يطرحون مثل هذه الأسئلة، رغم أنها أسئلة طبيعية، ومن حقهم أن يطرحوها ويفكروا فيها، لأنها باختصار أسئلة إنسانية، فلم يحدث أن رأينا يومًا حصانًا أو فيلًا يحملق ببصره فى السماء متسائلًا: أين الله؟ ومن الذى خلقني؟ إن مثل هذه التساؤلات هى تساؤلات إنسانية صرفة، وستبقى ما بقى الإنسان.
طرح نجيب محفوظ بعض هذه الأسئلة الميتافيزيقية فى روايته «الطريق»، ولكن لم يطرحها على نحو فج ومباشر، وإنما بشكل رمزي من خلال حكاية شاب يبحث عن أبيه، وإذا توقفنا عند هذا المستوى من النظر إلى الرواية بوصفها رواية عادية، واكتفينا بما تقوله الرواية على نحو مباشر، فسوف تبدو كرواية بوليسية من نوع راقٍ عميق.
غير أن المعنى الرمزى فى فهم «الطريق» لنجيب محفوظ هو الأكثر إقناعًا لأن نجيب محفوظ عودنا على تعدد المستويات فى أعماله الفنية، فضلًا عن أنه فى «الطريق» لم يدخر وسعًا فى إمدادنا بكل المفاتيح اللازمة لترجيح هذا المعنى الميتافيزيقى للرواية.
إن هذه الرواية التى صدرت فى عام 1964 عن مكتبة «مصر» بالقاهرة، تحكى كيف أن «صابر» ظل يبحث عن أبيه «سيد سيد الرحيمي». «ومن الممكن أن يتبين لنا على الفور ما فى هذا الاسم من رمزية: فالله هو السيد، وهو الرحمن الرحيم» (جورج طرابيشي، الله فى رحلة نجيب محفوظ الرمزية، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت- لبنان، الطبعة الثالثة، 1988، ص 42).
يتبين لنا بجلاء من خلال هذه الرواية مدى تأثر نجيب محفوظ بالفلسفة الوجودية التى ترى أن الإنسان قد قُذِفَ به فى هذا الكون، وينبغى عليه أن يشق لنفسه «طريقًا» فى هذه الحياة دون اعتماد على قوى أخرى، وعليه أن يقرر مصيره بكامل حريته، ويكون مسئولًا عن اختياراته. هذا ما يراه الوجوديون، وهذا ما يتفق معهم فيه نجيب محفوظ فى تناوله للخطوات التى قطعها «صابر» فى «طريق» حياته، حتى انتهى به المطاف بالقبوع فى السجن.
اختار المؤلف هذا المصير المأساوى لبطل روايته؛ لأنه لم يكن بطلًا وجوديًا - بالمعنى الفلسفى الذى أشرنا إليه- بل كان شخصية «اتكالية»، «صابر» مثله مثل قطاع كبير من العرب والمسلمين تسود بينهم روح الاتكالية، فكثيرًا ما نسمع هذه العبارات «ارمى حمولك على الله»، «ربنا عايز كده»، «هذا هو الله.. وهذه حكمته»!!
عودنا نجيب محفوظ أنه لا يختار أسماء أبطال أعماله على نحو عشوائي، بل كل اسم له دلالة معينة، واسم «صابر» مشتق من الصبر، و«الصبر مفتاح الفرج»، هكذا تعلمنا!! ولكن نجيب محفوظ شاء أن يخبرنا من خلال المصير المظلم الذى حاق بـ «صابر» أن الصبر لا يكون دومًا «مفتاح الفرج»، بل قد يكون أحيانًا «مفتاحًا لجهنم»!! .
لم يعتمد «صابر» على ذاته قط، ظل يعتمد على أموال أمه، وبسبب تدليلها له أهملت تعليمه، فشب لا يتقن عملًا، سوى إشباع شهواته، وحين ماتت أمه سعى للبحث عن أبيه ليوفر له ما كانت توفره له أمه من حياة الدعة والخمول والشهوة والتكاسل. وحين نفدت النقود التى تركتها له أمه، لم يفكر فى البحث عن عمل، هو لا يريد أن يبذل جهدًا، إنه يتطلع إلى قوى عليا تأخذ بيده وتخرجه من محنته، إنه ينتظر معجزة تتحقق بالاهتداء إلى الأب «إنه سيد ووجيه بكل معنى الكلمة، لا حد لثروته، ولا لنفوذه». (الطريق، ص 12).
لم يستجب لنداء «الخير» المتجسد فى «إلهام» التى أحبته، وحثته على الالتحاق بعمل؛ فراوغ ورفض، واستسلم للشر المتمثل فى «كريمة» زوجة صاحب الفندق، التي أغوته بمفاتن أنوثتها، فغرق معها في بحر الشهوات، وأقنعته بقتل زوجها العجوز الثري لينعما بثروته بعد مماته، فأطاعها ونفذ ما طلبته منه، فانكشف أمره وتم القبض عليه، انتظارًا للموت أو السجن مدى الحياة.
هكذا وضع نجيب محفوظ نهاية «الطريق» الذي اعتمد فيه «صابر» على مبدأ «الاتكالية».
دكتور حسين علي أستاذ المنطق وفلسفة العلوم بآداب عين شمس