بقلم: د. صفوت حاتم
قال الرئيس عبد الفتاح السيسى فى حواره مع رؤساء تحرير الصحف القومية الثلاث: «البعض فيما مضى.. لم يكن يسمع أو يتيح الفرصة لسماع الناس.. لكى يعطى انطباعًا أن «كل شىء تمام».. لا.. مش كل شىء تمام.. ولابد أن نعترف بأن لدينا أوجه قصور كثيرة فى مرافق الدولة وخدماتها.. لو لم نعترف بهذا فإننا لا نخدع الناس فقط.. وإنما أخدع نفسى أيضا...» (الأهرام، ١٧ مايو ٢٠١٧).
لقد اتضح تماما من لقاءات الرئيس عبد الفتاح السيسى الأخيرة.. مع الشباب فى الإسماعيلية.. وفى افتتاح بعض المشروعات بمحافظة قنا.. أن هناك عثرات وسلبيات متعددة فى مسرتنا الاقتصادية.. رغم تعاقب الحكومات وتبدل الوزراء.
فقد شكى الرئيس.. مثلا.. من تأخر الإجراءات الإدارية والتنظيمية الخاصة بتسليم أراضى مشروع استصلاح المليون ونصف المليون فدان. ولم يتم توزيع العقود الخضراء على المواطنين رغم مرور سنة ونصف على تأسيس شركة الريف المصرى!!
وهذه الملاحظة تطرح مدى كفاءة الجهاز البيروقراطى المصرى فى مجمله.. لكن السؤال المُلح هو: كيف حدث ذلك فى شركة تأسست حديثا هى شركة الريف المصرى.. والمفترض أنها شركة جديدة وتأسست بعقلية جديدة..وأنها تأسست فى ظل ظروف وطنية معقدة وحرجة.. وبالتالى ليس معقولا أن تمارس عملها بنفس العقلية القديمة للبيروقراطية.. وتحمل شعار البيروقراطية المصرية الخالد: فوت علينا بكرة يا حضرة..متضيعش وقتنا؟؟!!
كذلك صرح الرئيس فى «قنا» أن جملة ما تم وضع اليد عليه من أراضِى الدولة تبلغ حوالى ٩٠ ألف فدان؟؟؟!!!
وبخلاف أنه رقم مهول.. لكنه يطرح تساؤلات حول جديّة أجهزة الحكومة.. والجهات الرقابية من شرطة ومديرى أمن.. ومحافظين.. وأجهزة الرقابة الإدارية.. والجهاز المركزى للمحاسبات.. والنيابة العامة.. ووزارة الزراعة.. إلى آخره.. كل هؤلاء كانوا فى ” غيبوبة ” عما يحدث حتى كشف الرئيس المستور؟؟!!!
لا يمكن أن نتصور أن بلطجية الأراضى كانوا يتحركون فى الظلام، ويضعون طاقية الإخفاء؟؟!!
والسؤال الثانى: لماذا بدأوا جميعا فى التحرك والانتباه عندما فضح الرئيس هذه الممارسات وطالب بوقفها وأمر بعمل « لجنة « على مستوى مجلس الوزراء تضم هيئة الرقابة الإدارية والمحافظين ومديرى الأمن وقادة الجيوش والمناطق العسكرية؟؟!!!
وقد ذكرنى قرار الرئيس بالقرار الذى اتخذه الرئيس الراحل « جمال عبد الناصر» فى منتصف الستينيات بتشكيل « لجنة تصفية الإقطاع « والتى أسند إدارتها لقائد الجيش آنذاك « المرحوم عبد الحكيم عامر «، ونجحت فى استرداد حوالى ١٥٠ ألفا إلى ٢٠٠ ألف فدان..كان قد تم تهريبها من قانون الإصلاح الزراعى بتواطؤ من الجهاز الإداري.
نعم أيها السادة: الجهاز الإدارى لم يتحرك حينما كان بلطجية وضع اليد يستولون على الأراضي.. ولم يتحرك إلا بعد كلام الرئيس.. وهو ما يتطلب تحقيقا نزيها يكشف عن المسئولين المتورطين فى هذا الأمر..ويكشف عن المحاسيب من « عليّة القوم « الذين سهلوا..أو غضوا النظر.. أو أهملوا فى واجبات وظيفتهم ومسئولياتهم.. وليكن الحساب عسيرًا!!
وفى لقاء الرئيس مع الشباب..اشتكى من المعلومات التى قدمها له وزراء الزراعة ووزراء الرّى حول الإمكانيات الواقعية والممكنة للرى فى مشروع المليون ونصف المليون فدان.
وعلى سبيل المثال.. وليس الحصر.. نُذّكر الجميع بالمعلومات التى كان يقدمها وزير التموين « المَقال « خالد حنفى حول « حجم توريد القمح « وتوفير نقاط الخبز. وفى حوار حديث لمجدى ملك رئيس لجنة تقصى الحقائق فى موضوع توريد القمح قال بالنص: «.. أن الخسائر التى لحقت الدولة العام السابق بسبب فساد منظومة القمح والخبز بلغت ١٥ مليار جنيه بسبب التلاعب، وإن الخسائر كانت أكبر فى الأعوام السابقة لوجود فارق فى السعر، وإن «مافيا» من كبار المسئولين والسماسرة ورؤساء شركات التسويق استطاعت السيطرة على مجريات الأمور داخل وزارة التموين، لدرجة أن أصبح لهم أماكن للاجتماعات وتنفيذ مخططاتهم داخل ديوان عام الوزارة بالاشتراك مع بعض المسئولين بوزارة الزراعة وهيئة الصادرات والواردات، لافتا إلى أن بعض الوزراء السابقين متورطون فى الفساد «. (المصرى اليوم، ١٤ أبريل ٢٠١٧ ).
وفى دراسة ليست حديثة تماما للخبير الاقتصادى « أحمد السيد النجار « منشورة فى جريدة الأهرام بتاريخ ( ١٨ أغسطس ٢٠١٤ ): أن جملة ما يمكن أن تحصل عليه الدولة المصرية من إعادة النظر فى أسعار الأراضى الزراعية التى حصل عليها رجال نظام مبارك من سياسيين ورجال أعمال, بأسعار رمزية, ثم استخدموها لبناء المنتجعات السكنية، والمساكن الفاخرة بالمخالفة لشروط التعاقد. كذلك جملة الأراضى الزراعية التى تم البناء عليها منذ عام ٢٠٠٧ وتبلغ مساحتها حوالى نصف مليون فدان (!! )، فلو تم فرض غرامات بقيمة ٣٠٠ جنيه على المتر, فإن العائد من تلك الغرامات يمكن أن يوفر للدولة أكثر من ٦٠٠ مليار جنيه (ستمائة مليار جنيه ). حتى لو تم تقسيطها على أربع أو خمس سنوات.
وظاهرة التعدى على الأراضى الزراعية..ظاهرة قديمة.. بدأت فى السبعينيات مع ”انفتاح السداح مداح ”.. وأخذت شكل تجريف الأراضى الزراعية وبيعها ” لقمائن الطوب الأحمر ”.. ورغم القوانين التى منعت تجريف التربة الزراعية..وتشديد العقوبة.. لكن الظاهرة اتسعت واستفحلت وأثرت على مساحة الأراضى الزراعية وإنتاجنا الزراعى.
ثم تلت هذه الظاهرة مافيات الاستيلاء على أراضى الطريق الصحراوى.. وبلغت ذروتها فى السنين الأخيرة لعصر مبارك ووزير إسكانه ” محمد إبراهيم سليمان ” حيث صار معتادا ومألوفا إهداء الفيلات والقصور لكبار رجال الدولة والوزراء ونواب البرلمان من الحزب الوطنى.. والمحاسيب من رجال القضاء والشرطة.. وغيرهم.
ثم بدأت بعدها ظاهرة إهداء الأراضى المستصلحة لنفس الفئات.. حيث تتم زراعة مساحات محدودة من الأراضى.. وتحويل الغالبية العظمى لأراض عقارية لكسب مئات المليارات.. وأظن أن جهاز الكسب غير المشروع يعج بالملفات والأسماء الرنانة.. والمساحات الخرافية.
والعجيب أن معظم هذه الأسماء.. تم حفظ ملفاته.. أو تم التصالح معه بأرقام متواضعة لا تتناسب مع ما جنوه من أرباح بالمليارات.
والملفات موجودة فى جهاز الكسب غير المشروع.. ويمكن للرئيس الاطلاع عليها.
والسؤال الذى يفرض نفسه..كما فى سابقه: كيف تمكن كل هؤلاء من خداع الرئيس والأجهزة الرقابية وتكبيد الدولة كل هذه المليارات؟؟!!
والأهم: ماهى الإجراءات التى تمت معهم لكشف الحقيقة..وكشف المتآمرين؟؟
نحن.. إذن.. فى مواجهة أزمة وإشكالية خطيرة.. تضع كفاءة الجهازى الإدارى وشفافيته موضع الشك..وتطرح كفاءة الجهازى الإدارى المصرى من القمة إلى قاعدة.
ورغم الجهود التى تبذلها الرقابة الإدارية فى كشف جرائم الرشوة والاختلاس والرقابة على الجهاز الإداري..لكن هناك حلقة غير مكتشفة فى كل هذه الوقائع..
والسؤال الضاغط هو: هل هناك من يسعى داخل الدولة لتخريب اقتصادنا الوطنى؟؟!!!
ولمصلحة من يتحرك هؤلاء..وأى قوى تحميهم وتوجههم؟ ؟!!
الاقتصاديون التجربة.. والخطأ
بداية لا يمكن الحديث عن تجربة اقتصادية « مثالية « مهما كانت إنجازاتها.
فالاقتصاد الوطنى ليس مجرد نظريات مدرسية أو خطط تتم فى الغرف المغلقة.
فإذا أخذنا الإجراءات الأخيرة التى بدأت بتغيير سعر الصرف وتعويم الجنيه المصرى كمثال على منهج التجربة والخطأ.. فهناك الكثير من الملاحظات.
ونحن نعلم الآن أن قرار تعويم الجنيه المصرى كان إجراءً واحدًا.. ضمن حزمة إجراءات أخرى طالب بها البنك الدولى كشرط للموافقة على منح مصر قرض كبير لتحسين أوضاعها الاقتصادية.
وروشتة البنك الدولى وصندوق النقد الدولى تكاد تكون محفوظة ومكررة:
تخفيض أو تعويم العملة المحلية..
خصخصة القطاع العام للدولة..
تقليص دور الدولة فى الاقتصاد..
تحرير الأسواق من دعم الدولة للسلع والخدمات..
تحرير التجارة وبشكل خاص الاستيراد من أى إجراءات حماية جمركية.
روشتة معروفة للجميع.
وقد تأخذ دولة ما بكل « الروشتة «..وقد ترفضها..وقد تأخذ ما يلائم أوضاعها..وتترك ما لا يتفق مع ظروفها.
ولاشك أن فى تجارب الدول الأخرى ما قد يساعدنا على اختيار ما نراه ملائما لنا ولظروفنا.
تجربة ماليزيا وكوريا الجنوبية
ولنأخذ على سبيل المثال تجربة كوريا الجنوبية..وهى اقتصاد ناهض وفتى بدأ فى الستينيات مع مصر..
اضطرت كوريا الجنوبية.. مثلا.. للأخذ بتوصيات صندوق النقد الدولى.. عندما تعرضت ﻷزمة مالية ضخمة عام ١٩٩٧.. ولكنها نجحت فى تجاوز الأزمة بسرعة بفضل بنيتها الصناعية القوية.
بينما اختلف الوضع فى حالة ماليزيا.
فقد تعرضت ماليزيا لأزمة مالية ضخمة عام ١٩٩٧ ( عام سقوط النمور الأسيوية).. ولكنها على العكس من كوريا الجنوبية، رفضت تطبيق برنامج صندوق النقد الدولى واعتمدت على برنامجها الخاص الذى اعتمد على تأجيل مشروعات البنية الأساسية والعقارية والتركيز على المشروعات الإنتاجية وتقليص الواردات لاستعادة التوازن فى الميزان التجارى وتصحيح المسار..ورفضت تعويم العملة واعتمدت على «التسعير التحكمى» المتغير للعملة المحلية.
إن مراجعة أى قرار سياسى أو اقتصادى فى ضوء النتائج أمر محمود، وليست عيبًا فى أحد. فكما قلت سابقا: العملية الاقتصادية تتحكم بها عوامل داخلية وخارجية طارئة.. قد لا تكون فى حسابات صانع القرار عند وضع الخطة الاقتصادية.
والنوايا الحسنة لصانع القرار لا تكفى وحدها لصنع النجاح.
قرار تعويم الجنيه المصرى
ولنأخذ على سبيل المثال قرار تعويم الجنيه. فالهدف النظرى هنا أن تخفيض سعر العملة المحلية سيؤدي.. حتما.. إلى تخفيض أسعار الصادرات المحلية..عند تقويمها بالعملات الحرة.. مما يشجع على التصدير ومنافسة نظيرتها فى الأسواق الخارجية. وكذلك لتحفيز السيّاح والمستثمرين على شراء منتجاتنا المحلية التى تتميز برخصها.. لأن تخفيض العملة المحلية يؤدى إلى زيادة القدرات الشرائية للعملات الأجنبية التى بحوزة السياح والمستثمرين الأجانب فى ذلك البلد.
ولكن هذا الهدف لن يتحقق إلا إذا ظلت أسعار السلع المحلية ثابتة ومنخفضة.. وهو ما لم يحدث عمليا.. فقد ارتفعت أسعار السلع ارتفاعا كبيرًا منذ تعويم الجنيه.. وهو ما أضاع جزءًا كبيرًا من الهدف المُتوخى من خفض سعر العملة المحلية.
ونفس الشيء يمكن أن يقال عن هدف تحفيز السياح على الإنفاق..فارتفاع أسعار السلع.. بعد التعويم يلغى ميزة الرخص والمنافسة التى تتميز بها السلع والخدمات فى بلدنا.فضلا عن أن الظروف السياسية والأمنية حدّت من الاستفادة الفعلية والسريعة بميزة خفض سعر العملة المحلية.
ليس عيبا أن يتم إعادة النظر فى بعض القرارات الاقتصادية.. واحتواء آثارها السلبية.
والعبرة بسرعة مواجهة الموقف بشجاعة.. والمناورة الجريئة لمحاصرة الآثار السلبية غير المتوقعة..
إن توقيت قرار التعويم كان يتطلب دراسة أوضاع السوق.. وقدرة الصناعات المحلية المتوافرة ومدى إمكانياتها للحل محل الواردات.. ودراسة متطلبات المستوردين واتجاهاتهم للتعاون مع الدولة فى الاستغناء عن استيراد السلع الكمالية.. قدرة الجهاز المصرفى على دعم الصناعات التحويلية وانتشالها من الضياع والتخريب الذى تعرضت له فى الأربعين سنة الفائتة.. قدرة أجهزة الدولة الرقابية على ضبط الأسعار ومكافحة التضخم.. وهكذا!!!
قطعا أن ابتعادنا عن « مطبخ القرار الاقتصادى « يجعل كلامنا « نظريا «.. فنحن لا نعلم بدقة حجم الضغوطات الداخلية والخارجية التى تواجه صانع القرار الاقتصادى.
الحرب على الفساد والمحسوبية
إننا نثق فى وطنية ونزاهة الرئيس.. ونؤمن برغبته فى تصحيح الأوضاع ونثمن بشدة ما قاله فى حواره مع رؤساء تحرير الصحف القومية..حين قال:“.. أقول بكل وضوح إن قانون الطوارئ سيطبق بكل حسم إذا لزم فى مجابهة التعديات على أراضى الدولة.. لأنها قضية أمن قومى.. وأى أحد سيرفع السلاح فى وجه الشرطة أو الجيش..سيواجه بالقوة.. وليتحمل نتيجة أفعاله ” (الأهرام ١٧ مايو ٢٠١٧ )
إن الشعب كله سيقف مع الرئيس والشرطة والجيش فى هذه المواجهة.
ويبقى السؤال: هل ستقف الأجهزة الإدارية فى المحليات والوزارات المعنية مع الرئيس والشعب فى الحرب على الفساد والمحسوبية؟