الخميس 20 يونيو 2024

الرئيس والإعلام.. التصورات الثابتة والسياسات المتعاكسة

24-5-2017 | 14:45

بقلم: د. أيمن منصور

علاقة الرؤساء بوسائل الإعلام علاقة ليست خافية على أحد، ولا تحتاج إلى دليل لإثباتها.. وتزخر كتب الإعلام ودراساته بالعديد من المشاهد واللقطات ذات الدلالة فى توضيح علاقة الرؤساء بوسائل الإعلام، منها على سبيل المثال، أن البيت الأبيض خلال سنوات رونالد ريجان وجورج بوش (الاب) كان يصل إلى حالة توقف صارخ فى السابعة مساء، حتى يستطيع كل مسئول أن يشهد برامج الأخبار المسائية، ليرى ما إذا كانت إدارتهم لمسرح الرئاسة قد ترجمت بنجاح إلى لغة التلفزيون.. ويقال إن الرئيس كارتر أثناء أزمة الرهائن الأمريكيين فى إيران كان يقضى فى مشاهدة شبكات التلفزيون الثلاث وقتاً أطول مما كان يقضيه فى قراءة برقيات وتقارير وكالة المخابرات المركزية CIA والتى تحوى آخر التقييمات بشأن كيفية معالجتها.. وكان سكرتير أحد المرشحين فى انتخابات الرئاسة الأخيرة يدعى أن هذا المرشح يقضى أكثر من نصف وقته مع وسائل الإعلام مشتركاً فى برامجها أو مشاهداً لها.

وفى مصر الحديثة، تشير المذكرات إلى أن الرئيس عبد الناصر كان يحرص على الاستماع بنفسه إلى محطات الراديو المحلية وكان يأمر بإذاعة بعض المواد والأغانى كما حدث مع أغنية «عدى النهار»، وكان يقضى الليل فى الاستماع إلى المحطات الدولية كالـ «بى بى سى» البريطانية، ويقرأ بنفسه صحيفة الجارديان كما أشار فى أحد خطبه.. وكان الرئيس السادات رئيساً إعلامياً وتلفزيونياً بجدارة، وكان محترفاً فى التعامل معها، وفى استغلال إمكانياتها.. وعندما سئلت جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل السابقة عن زيارة السادات إلى القدس ومنحه بالمشاركة مع بيجن جائزة نوبل للسلام، أجابت «أنا لا أعرف شيئاً عن جائزة نوبل، ولكنى أعتقد أنهما (السادات، وبيجن) يستحقان جائزة أوسكار»!! أما الرئيس مبارك فقد كان بارداً مع وسائل الإعلام، لا يتابع ولا يعلق، تاركاً المجال لمساعديه ولرجاله للقيام بالمهام المطلوبة.. أما الرئيس عدلى منصور، فيبدو أن علاقته بوسائل الإعلام قوية جداً، وتصديقه لها كبير جداً، لدرجة أنه عندما سئل عن سبب اختياره لمستشاريه الإعلامى والسياسى، أشار إلى أنه أعجب بأحاديثهما فى التلفزيون..

أما الرئيس عبد الفتاح السيسى فعلاقته بوسائل الإعلام هى علاقة مركبة، وتصوراته عنها هى تصورات متشابكة، ومشاعره نحوها مشاعر متضاربة، بين الاعتقاد فى قدراتها غير العادية على التوجيه والتعبئة وعلى تحقيق الأهداف الوطنية إذا ما توحدت رسائلها ولم تخرج عن الخط العام، وبين الإحباط الشديد من أدائها ومعالجاتها، والغضب الشديد من توجيه أى انتقادات لإدارته أو التعريض بالوزارة التى أوكل إليها سلطة تحقيق أهداف الدولة فى مرحلتها الراهنة.

تصورات الرئيس عبد الفتاح السيسى وإحباطاته ظهرت فى عدة مناسبات جلية مباشرة بدون تورية، وصريحة لا يحتاج الراصد معها إلى تأويل.. ففى نوفمبر ٢٠١٥، وفى الندوة التثقيفية العشرين للقوات المسلحة كانت الإشارة الأولى الصريحة «الزعيم الراحل عبد الناصر كان محظوظا، صحيح، لأن هو اللى كان بيتكلم والإعلام معاه».. النموذج الناصرى فى الإعلام هو النموذج الذى يطمح إليه الرئيس السيسى، وإن كان الزمن قد تغير، وإمكانية تنفيذه لم تعد ممكنة.. عصر السماوات المفتوحة على مصراعيها، وعصر وسائل الاتصال والتواصل الاجتماعى الذى غير كثيراً من قوانين اللعبة، وأحال كثيراً منها إلى التقاعد، جعل من إمكانية تنفيذ الحلم الناصرى مستحيلاً فى عصر الرئيس السيسى.

الإشارة الثانية الواضحة كانت بعد الإشارة الأولى بأيام معدودات، وفى إطار تعليقه على التغطية الإعلامية لأزمة أمطار الإسكندرية، وما أشاره بعض الإعلاميين من لقاء الرئيس السيسى أكثر من مرة مع ممثلى بعض الشركات العالمية وإهماله شئون المحليات، إذ قال الرئيس السيسى «هو أنتو بتعذبونى إنى جيت هنا، ما يصحش كده... كل واحد ماسك قدامه مايك بيتكلم فيه وجورنال بيكتب فيه.. لا يا جماعة..دى دولة هتضيع منا كده.. كده احنا بننشر الجهل».. وألقى الرئيس بالكرة فى ملعب الإعلام عندما أشار إلى فساد قطاع الإعلام وضرورة الاهتمام به وتطويره قبل التعديل على الحكومة والتنظير لها “ إنتو بتقولوا كل حاجة فيها كارثة، هو القطاع ده (يقصد الإعلام) ده مفيش فيه كارثة ولا إيه؟”!!

الإشارة ذاتها تكررت مرة ثالثة فى الندوة التثقيفية الثالثة والعشرين للقوات المسلحة، وفى إطار تعليقه على ندوة «تأثير وسائل الإعلام على صناعة الرأى العام الشبابى»، أشار الرئيس السيسى موجهاً حديثه إلى الإعلاميين «أنتم بتضروا بمصر»، فى إشارة إلى منع السودان استيراد شحنات من المواد الغذائية المصرية بسبب ما أثارته وسائل الإعلام المصرية من تلوث مياه الرى، وفى إشارة إلى ما ذكره البعض من أن وسائل الإعلام المصرية كانت السبب فى تأزم موضوع مقتل الشاب الإيطالى جوليو ريجينى عندما اتهمت السلطات المصرية بقتل الشاب، وهو ما أخذته عنها وسائل الإعلام الإيطالية والدولية، وغيرها من الأحداث..

الإشارة الصريحة الرابعة كانت فى إبريل ٢٠١٧، وفى أعقاب أحداث كنيستى طنطا والإسكندرية، إذ أشار فى الكلمة التلفزيونية إلى أنه “على الإعلام التعامل مع الوضع الحالى بوعى وبمسئولية” منتقداً تكرار إذاعة صور الضحايا، وعرض الصور الخاصة بهذه الحوادث بشكل مكثف..

الإشارة الخامسة كانت أثناء افتتاحه لبعض المشروعات فى الأقصر خلال هذا الشهر (مايو ٢٠١٧)، وصب فيها الرئيس السيسى جام غضبه على كل من الإعلاميين ومقدمى برامج التوك شو من ناحية، وعلى الضيوف من ناحية أخرى، الذين يتحدثون فيما لا يعلمون، ويفتنون فى كل شيء.

الإشارة السادسة والأخيرة كانت فى الجزء الثانى من حوار الرئيس مع رؤساء تحرير الصحف القومية (الأهرام، والأخبار، والجمهورية) والذى نشر يوم الخميس ١٨ مايو ٢٠١٧، والذى أشار فيه أنه “ لا يوجد ارتداد إلى الوراء، إعلامنا يتحرك للأمام وسيتحسن أكثر”، وهذه هى الإِشارة الإيجابية الوحيدة فى هذا الإطار..

ويلاحظ على هذه الإشارات أنها تعكس عتاباً يصل إلى حد اتهام وسائل الإعلام بالتخريب وبالتسبب فى ضياع مصر.. الرئيس يرى أن وسائل الإعلام لا تعكس القضايا الوطنية باحترافية، ولا تهتم بقضايا التنمية الحقيقية.. ويرى أن الإعلام ليس على “صوت” رجل واحد، وأنه يسيء إلى مصر أكثر مما يدعم مسارات التنمية.. هذه التصورات ثابتة على مدار السنوات الثلاث.. خط عام ورؤية واحدة لا تغير فيها.. وفى هذه التصورات يضع الرئيس وسائل الإعلام جميعها فى سلة واحدة، لا فرق بين إعلام خاص، وإعلام دولة.. ولا فرق بين صحافة حزبية، وصحافة مستقلة، وصحافة قومية.. مادامت مصرية فلابد لها من السير فى الخط الذى ترتضيه الدولة.. وهو تصور مثالى بعيد عن معطيات العمل الإعلامى، وعن مقتضيات الواقع الذى تعمل فيه هذه الوسائل.

الفقر الإعلامى وندرة المواهب!!

هناك عبارة يتم ترديدها كثيراً فى الأدبيات السياسية فى وصف بعض الديمقراطيات، وهى “ديمقراطية بغير ديمقراطيين” Democracy Without Democrats، وهو ما يمكن تطبيقه فى النظام الإعلامى بالقول: إعلام بلا إعلاميين.. وسائل الإعلام التى يعول عليها الرئيس السيسى تفتقد الإعلاميين الحقيقيين.. كان سعد زغلول يسير فى خطواته، وكان العقاد كاتباً وإعلامياً ومتحدثاً باسمه وله.. وكان مصطفى النحاس وبجواره طه حسين.. وكان عبد الناصر وبجواره هيكل.. وكان السادات وبجواره أنيس منصور وموسى صبرى.. وكان مبارك وعلى بعد خطوات بعيدة منه سمير رجب وإبراهيم نافع.. أما الرئيس السيسى، فلا يوجد لديه من فى أوزان السابقين عليه.. حاول البعض احتلال نفس المكانة وفشلوا.. هناك تصحر فى الكفاءات الإعلامية القادرة على ملء المكان.. وهناك فقر فى المواهب الإعلامية القادرة على أداء المهام الصعبة..

الأذرع الإعلامية الجديدة: الإعلاميون الجدد

وفى محاولة لاستخدام وسائل الإعلام، ولخلق كيانات قادرة على ترجمة أهداف الدولة وعلى الدفاع عنها تم إنشاء كيانات إعلامية جديدة.. كيانات إعلامية ترتبط بالدولة ارتباطاً غير مباشر.. سواء من خلال رجال الأعمال الجدد الذين يرتبطون ارتباطاً وثيقاً بالدولة.. القنوات الجديدة هى البديل للقنوات التقليدية، وهى من يثق بها الرئيس.. أجرى الرئيس ثلاث مداخلات تليفونية مع عمرو أديب، ومداخلتين مع أسامة كمال.. وأخرجت هذه القنوات كل من يعارض الرئيس السيسى من العمل بها.. أسماء عديدة خرجت من الإعلام، بدءاً بباسم يوسف ويسرى فودة، وانتهاء بإبراهيم عيسى..

ولم يحظَ التلفزيون المصرى بأى مداخلة أو لقاء تلفزيونى مع الرئيس حتى الآن.. تجربة الرئيس السيسى مع التلفزيون المصرى غير مشجعة.. فى الحلقتين الأولى والثانية من الحوار الذى كان مقرراً أن يكون شهرياً للرئيس على التلفزيون كانت هناك أخطاء واضحة فى المونتاج، وكانت هناك أخطاء أكبر فى إذاعة فقرات قبل فقرات، وهو ما أخرج الحوارات فى شكل غير مهنى وغير احترافى..

لا توجد رؤية واضحة ولا توقع محدد عن مستقبل العلاقة بين الرئيس السيسى والإعلام.. غير أن الشاهد أن الإعلام يميل إلى أن يكون صوتاً واحداً، ورؤية واحدة، وفكراً واحداً.. وقد يكون هذا مفيداً لتحقيق بعض الأهداف التنموية.. لكنه ليس مفيداً ولا صحياً على المدى الطويل.. وعلينا أن ننتظر ونرى.. لعل الله يُحدِث بعد ذلك أمراً.