بقلم: د. نادية جمال الدين
«نحن المواطنات والمواطنين، نحن الشعب المصرى السيد فى الوطن السيد هذه إرادتنا، وهذا دستور ثورتنا»، ولذا وحقا بعد سنوات من ثورتى يناير ٢٠١١ ويونيه ٢٠١٣ إنا لمنتظرون أن يتحقق ما التزمت به الدولة فى دستور(٢٠١٤)، وبعد مرور ثلاث سنوات على تولى السيد رئيس الجمهورية عبدالفتاح السيسى
ما نزال ننتظر أن تلتزم الحكومة بما جاء فى الدستور عن المقومات الاجتماعية والتى تنص على أن تلتزم الدولة بالعدالة الاجتماعية فى المادة(٨) وتكافؤ الفرص فى المادة (٩) دون تمييز بين جميع المصريين كما تكفل المساواة فى الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والثقافية فى المادة(١١) ؛ وهذا من وجهة النظر هنا لا يتحقق إلا بالتعليم الجيد الذى تتسع فرصه وتتاح لجميع المواطنين على السواء دونما تفرقة.
وما أروع أن جاءت المادة (٧) قبل هذا لتؤكد اهتمام الدولة باللغة العربية ... وهذا فى حد ذاته يوضح ويتطلب أن تكون اللغة الرسمية والأساسية للتعليم فى المدارس المصرية كلها على السواء ولجميع المواطنين هى لغة القرآن الكريم،وهذا لا يمنع الاهتمام باللغات الأجنبية.
والحديث هنا بالتالى والمنبثق عما جاء فى الدستور المصرى إنما يتوقف أمام نظام التعليم بمراحله المختلفة وليس عن التعلُم فقط والذى يتيحه بنك المعرفةالإلكترونى والذى يعتبر بكل مميزاته إضافة واجبة وضرورية للتعليم والبحث العلمي. وتتضمن المادة(١٩) والتى ليس من الممكن فصلها عن المواد قبلها إذ تنص على أن: “التعليم حق لكل مواطن هدفه بناء الشخصيةالمصرية، والحفاظ على الهوية الوطنية”.ولعل هذا يدفعنا إلى طرح التساؤلات عما يعلن عن المدارس التى سوف تطبق التجربة اليابانية فى التعليم العام الدراسى القادم. ماذا سنقول لأبنائنا عن الهوية والثقافة والتاريخ لحضارة من أقدم حضارات العالم!!! حتى لو وجدنا تبريرا لغيرها من المدارس الدولية ومدارس اللغات بأنها العولمة وتأثيرها ... إلا أن الأمور حقا فى حاجة للمراجعة وفقا لنص المادة(٢) وما يتلوها من مواد الدستور هذا إذا أردنا الحفاظ على الهوية الوطنية بكل ما تمثله وتعبر عنه من امتدادات لجذور تاريخية وأصالة ثقافية وملامح اجتماعية مميزة.
ومع الاستمرار فى نص المادة(١٩) نجد أن: “التعليم إلزامى حتى نهاية المرحلةالثانوية أو ما يعادلها وتكفل الدولة مجانيته بمراحله المختلفة فى مؤسسات الدولة التعليمية وفقا للقانون” حتى آخر المادة. ومن هنا فما نزال ننتظر مد الإلزام حتى نهاية المرحلةالثانوية أوما يعادلها.
أما المادة (٢٠) فتؤكد على أن الدولة تلتزم بتشجيع التعليم الفنى والتدريب المهنى وتطويره وفقا لمعايير الجودة وبما يتناسب مع احتياجات العمل. ولعل هذا يحمل فى طياته أنه ليس من حق الدولةلأى سبب من الأسباب دفع المواطن الأقل حظا إلى الالتحاق بتعليم فنى لا يقدم مفيدا للدارس فيه أو جديدا متلائما مع احتياجات سوق العمل المتغيرة بمجتمع المعرفة فى سرعة غير مسبوقة عما كان معروفا فى عصر الصناعة حيث التجدد والتنوع فى التخصصات والتى تتطلب كفايات لا يستطيع التعليم الفنى بأوضاعه الراهنة أن يقدمها. ومن هنا فسياسة التدريب المهنى المستمر سياسة مطلوبة كى تكمل ما لا يتيحه التعليم فى المدارس والتعليم الفنى خاصه وليتحقق بهذا التعلُم المستمر مدى الحياة والذى هو الصيغةالمقبولة عالميا فى الزمان الرقمى أى فى زمان الثورة العلمية والتكنولوجية بكل ما تحمله من متغيرات ومتطلبات علمية ومهارات عملية وكفايات مهنية. فالتعليم الفنى لابد أن يبتعد عن محاصرة الفقراءحيث تنطلق من البعض مبادرات تحمل شعارات أن “العمل شرف” وبما يتضمن تحويل الأطفال إلى صبية يعملون فى الورش متدنية المهارات!!! وأيضا الإصرار على أن التعليم الفنى قاطرة التقدم دون تحديد لملامح هذا التعليم الفنى الذى لا يلتحق به أبناء المسئولين الذين ينادون به أو أبناء القادرين الذين يمكنهم الالتحاق بمؤسسات التعليم التى تسمح لهم بمستقبل واعد يحققه لهم التعليم الثانوى العام مفتوح النهاية أو التعليم الخاص الذى ينتهى بالشهادات الدولية وليست الثانوية العامة المصرية. إن محاصرة الفقراء فى مدارس تقدم التعليم الفنى مغلق النهاية غامض المستقبل ولا يؤهل إلا للبطالة أو لأعمال متدنية فى نظر البعض ولا يتيح للمواطن المصرى تكافؤ الفرص مع المتعلمين فيما تمت الإشارة إليه من مدارس دولية أو لغات أو مدارس النيل الحكومية أو مدارس المتفوقين مع تعدد المسميات حاليا فى مصر والتى تعنى فى النهاية أن التميز ليس من حق أى مواطن ولكنها الطبقية الناجمة عن اللامساواة فى فرص التعليم. إن العناية بشرائح المجتمع المتميزة وأبناء القادرين ماليا لا تعنى التضحية بأبناء غير القادرين وتوجيههم إلى تعليم رديء لا يقدم لهم بصورة عادلة ما يؤهلهم للمواطنة أو سوق العمل أو العيش فى وطن تتحقق فيه العدالة الاجتماعية والإنصاف لجميع أبنائه على السواء.
أما المادة (٢١) والخاصة بالتعليم الجامعى فكم هى رائعة لإقرارها الحرية الأكاديمية رغم أن اختيار رؤساء الجامعات بل والعمداء ورؤساء الأقسام لم يعد من حق المجتمع الأكاديمى نفسه أوكما يفرضه مبدأ استقلال الجامعات.
ويضاف إلى هذا أن كفالة مجانية التعليم الجامعى فى الجامعات الممولة من الدولة فى حاجة إلى توضيح، فلا يكفى النص الدستورى ثم يُطلق على هذا الحق إعلام شرس لا يراعى ما ينبغى أن يراعيه من حقوق المواطنين وأصول المهنة وينضم إلى هذه الحملة بعض رؤساء الجامعات، ومعروف موقف بعض المسئولين ممن يصرحون بشأنها ثم يكذبون التصريحات!!!
أما المواد (٢٢) و(٢٣) و (٢٤) فهى تتضمن نصوصا تؤكد على حق المواطن المصرى ليس فى التعليم الجيد فقط للجميع بل تؤكد هذا كله بالنص على أهمية الاهتمام باللغةالعربية والتربية الدينية والتاريخ الوطنى وأيضا تدريس حقوق الإنسان والقيم والأخلاقيات المهنية ... كم هو رائع أن نتمسك نحن المواطنين المصريين بهذا ونترقب تحقيقه ونعمل حقا على ممارسته بأنفسنا إذا كنا نتمسك بالدستور فعلا ... فالحقوق دائما ليست من طرف واحد أى التزام من جانب الدولة بل وأيضا التزام من المواطن السيد فى الوطن السيد حقا.
أما القرائية فى المادة (٢٥) والتى ما تزال كلمة الأمية مستخدمة للتعبير عنها فى اللغة العربية رغم التخلى عنها فى منظمة دولية مثل اليونسكو فلن تكون إلا بالسعى الدائب والدائم لسد المنابع التى تسمح للمواطن الصغير ألا يلتحق بالتعليم أو تترك المواطن الكبير الذى لا يقرأ ولا يكتب وشأنه. فالحاجة ماسة للتوسع فى بناء المدارس، وتقليل كثافة الفصول، ومراجعة المواد الدراسية باستمرار، وأساسا لابد من توفير معلم ملتزم ومؤهل تأهيلا جيدا. إن الخطة الزمنية لتحقيق التعليم والتعلُم للجميع بدأت منذ مؤتمر جومتيان عام (١٩٩٠) وكان إنشاء الهيئةالعامة لمحو الأميه وتعليم الكبار حينئذ لتحقيق هذا الهدف الذى أقرته دول العالم فى مؤتمر اليونسكو وما تلاه من مؤتمرات فى دكار عام (٢٠٠٠) وأنشون عام (٢٠١٥)، فأين نحن من هذا التعليم الجامع للجميع حتى الآن؟!
والحق إن مواد الدستور مترابطة ومتكاملة بشأن المقومات الاجتماعية. وأما المادة الأهم والتى ستؤدى إلى تحقيق كل ما تم الإشارة إليه من أهداف تعليمية فهى المادة (٨٠) والمرتبطة بحقوق الطفل وخاصة حقه فى الرعاية والتعليم المبكر منذ سن الرابعة حتى سن السادسة ... فالمكتشفات العلمية الحديثة عن العقل البشرى توضح أن مرحلة الطفولة المبكرة بل ومنذ الميلاد هى المرحلة المؤسسة لكل ما تكتسبه الشخصية ويتضح فى السلوك الإنسانى ويتحقق فى القدرةعلى التعلم والاستمرار فيه، ذلك أن ذكاءات الإنسان متعددة والمواهب المكتسبة فى هذه المرحلةالعمرية مرتقبة وتبنى عليها آمال نطمح فى أن تحقق للإنسان ما يؤدى إلى انبثاق وتكوين ثروة بشرية هائلة تكمن أساسا فى عقول البشر. فالثروة الحقيقية فى زماننا هذا هم البشر والذين ينظر إليهم على أنهم الثروة الطبيعية المتجددة لأية أمة فلم تعد ثروات الأمم تقاس بما فى باطن الأرض كما كانت فى عصور خلت.
إن نصوص الدستور، الذى هو نتاج (٢٠١٤) وحصاد كفاح شعب، لابد وأن توضع نصب عيوننا دون أن نحيد عن مواده التى ترسم صورة جادة لمستقبل تستحقه مصر الوطن بكل بنيها وما يزال أمامنا فسحة الأمل طالما أن الدستور فى مادته (٨٦) يؤكد على أن الحفاظ على الأمن القومى واجب والتزام يتطلب مراعاته. والأمن القومى هنا مسئولية وطنية يكفلها القانون، والدفاع عن الوطن وحماية أرضه شرف وواجب مقدس ... ولذا فإن التجنيد إجبارى وهو شرف لكل مواطن يسعده الزمان بتلبية نداء الوطن كما أن الدفاع عن حقوق الوطن وأبنائه أيضا شرف لابد وأن يلتزم به كل من يعيش على أرض مصر.
وحين يصل بنا الحديث إلى الأمن القومى والذى هو أمن الوطن وأمن المواطن فإن ما نريد التأكيد عليه هو أن الانسان المتعلم تعليما جيدا هو العمود الفقرى للأمن القومى لمصر وكما أثبتت حرب أكتوبر المجيدة عام (١٩٧٣)، وبالتالى فمن الواجب أن نعيد التفكير فى الميزانية المخصصة للتعليم والتى ينبغى ألا تقل فى المرحلة الراهنة عما هو مخصص للجيش فالأمن القومى واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب وفقا للقاعدة الفقهية المشهورة وبالتالى نؤكد على أن الأمن القومى لمصر الوطن لن يتحقق إلا بالتعليم الجيد والمتميز والمتاح والذى يجمع الجميع إذ إنه يعتبر الأداة الرئيسية لتحقيق العدالة الاجتماعية والانصاف للمواطن المصرى الجدير بكل الاحترام والتقدير.. وإنــا لمنتظرون.