د. سلوى العنترى
الخطاب السياسى على مدى السنوات الثلاث الماضية لا يكف عن التأكيد على اهتمام الدولة بالفقراء. هناك دائما ما يشبه العتاب الموجه للنخبة والشباب بأنهم يتجاهلون كل ما تفعله الدولة للفقراء ويصرون على أن انحيازها الرئيسى هو للفئات القادرة وأصحاب الشرائح العليا للدخل.
فى الحقيقة لا يمكن إنكار أن أداء الحكومات المتعاقبة على مدى السنوات الثلاث الماضية يشير إلى أن هناك وعيا بأهمية تحسين وضع الفقراء. إلا أن هذا الوعى يعبر عن نفسه فى سياسات وإجراءات لا تخرج عن إطار «تخفيف حدة الفقر للفئات الأشد احتياجا» وتنطلق من إيمان عميق بنظرية تساقط الثمار، بمعنى أن زيادة النمو مع مراعاة انتشار التوزيع الجغرافى للاستثمارات العامة وللمشروعات القومية سوف يؤدى إلى زيادة فرص العمل وتحسين الدخول وتخفيض معدلات الفقر. و انتظارا لتحقق ذلك فلا غضاضة فى أن يتحمل الفقراء تكلفة الخروج من الأزمة الاقتصادية.
من هم الفقراء؟
التعريف الذى تتبناه الإحصاءات الرسمية للفقر هو عدم القدرة على الوفاء بالحد الأدنى للاحتياجات الأساسية للفرد/الأسرة من الطعام والمسكن والملابس وخدمات الصحة والتعليم والمواصلات. الإحصاءات الرسمية تقول إن نسبة الفقراء فى مصر قد ارتفعت من ٢٦.٣٪ فى عام ٢٠١٣ إلى ٢٧.٨٪ فى عام ٢٠١٥، و إن أكثر من ٥١٪ من فقراء مصر يعيشون فى ريف الصعيد. البيانات الرسمية تؤكد أيضا ارتفاع نسبة السكان الفقراء فقرا مدقعا. هذه الشريحة تمثل الفقراء الذين لا يمكنهم الوفاء بالاحتياجات الأساسية من الغذاء، أى طبقا لتعريف الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، من لا يستطيعون الوفاء بكلفة البقاء على قيد الحياة. هذه الشريحة ارتفعت نسبتها من ٤,٤٪ فى عام ٢٠١٣ إلى ٥,٣٪ من السكان فى عام ٢٠١٥.
الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء يعلن فى بياناته المنشورة عن الفقر فى مصر أن الأسرة المكونة من خمسة أفراد تحتاج إلى ٢٣٧٢ جنيها فى الشهر حتى تستطيع الوفاء باحتياجاتها الأساسية، وذلك وفقا لمستويات الأسعار فى عام ٢٠١٥. ترى ما هو المبلغ المطلوب للوفاء بتلك الاحتياجات فى ظل مستويات الأسعار الحالية؟
كشف حساب السنوات الثلاث الماضية
كشف حساب الحكومات المتعاقبة يوضح أن أهم ما قدمته الدولة للفقراء خلال السنوات الثلاث الماضية يتمثل أساسا فيما يلى:
حل مشكلة طوابير الخبز المدعم
تبنى حملة للقضاء على فيروس سى وتوفير العلاج المجانى للمرضى.
تبنى برنامج لتطوير ٧٢ منطقة سكنية غير آمنة فى مختلف المحافظات، عبر إزالة تلك المناطق وتوفير مساكن آدمية بديلة لقاطنيها بحلول منتصف عام ٢٠١٨.
تبنى برنامج لمد شبكات المياه والصرف الصحى للمناطق المحرومة فى الأقاليم، وخاصة فى الصعيد الذى يتسم بأعلى معدلات للفقر فى مصر. ويستهدف البرنامج الوصول بنسبة تغطية الخدمات فى القرى إلى ١٠٠٪ لمياه الشرب و٥٠٪ للصرف الصحى ذلك بحلول منتصف عام ٢٠١٨.
توفير حماية اجتماعية جزئية لشريحة من الفقراء من خلال برامج الدعم النقدى المشروط تكافل وكرامة ومعاش الضمان.
رفع الحد الأدنى للمعاش إلى ٥٠٠ جنيه
توسيع نطاق تغطية دعم السلع التموينية بحيث صار يغطى ٩٥٪ من الأسر فى الريف و٨٠٪ من الأسر فى الحضر.
توسيع نطاق توفير بعض السلع الغذائية الأساسية بأسعار مخفضة نسبيا من خلال المجمعات الاستهلاكية ومنافذ القوات المسلحة.
طبعا يثور التساؤل إذا كانت الحكومات المتعاقبة على مدى السنوات الثلاثة الماضية قد قامت بكل الإجراءات السالف ذكرها فلماذا يتم اتهامها بتحميل الفقراء أعباء الخروج من الأزمة الاقتصادية؟
شبكات الحماية مهترئة
يجب الإشارة مبدئيا إلى أن شبكات الحماية التى توفرها الدولة للفقراء هى فى حقيقة الأمر شبكات قاصرة. فالدعم النقدى المشروط المقدم من خلال برنامجى تكافل وكرامة بالإضافة إلى معاش الضمان لا يغطى حاليا أكثر من ١,٦ مليون أسرة، تستهدف الحكومة زيادتها تدريجيا لتصل إلى ٣ ملايين أسرة. وهذا الهدف.. الذى لا نعرف على وجه التحديد الأفق الزمنى لتحقيقه لا يغطى سوى ٥٠٪ من الأسر الواقعة تحت خط الفقر..فماذا عن النصف الآخر؟ فضلا عن أن الارتفاعات المتوالية فى المستوى العام للأسعار تعنى أن القوة الشرائية لهذا الدعم النقدى تتآكل بشكل مستمر، ليزداد تهرؤ شبكة تلك الحماية.
أما فيما يتعلق باتساع نطاق تغطية دعم السلع التموينية، بما يعنى وصوله ليس فقط لشريحة الفقراء ولكن أيضا للعديد من شرائح المجتمع الأعلى دخلا، فيلاحظ أن هذا الدعم قد تم تحديده بمبلغ نقدى يتيح للمستفيد الحصول على كمية معينة من السلع الأساسية. وبالطبع تؤدى الارتفاعات المتتالية فى أسعار تلك السلع إلى انخفاض الكمية التى يحصل عليها المستفيد. صحيح أنه تم زيادة المبلغ المقرر لكل بطاقة تموينية عدة مرات، إلا أن الزيادة فى كل مرة تأتى أقل من أن تكفل للمستفيد الحصول على نفس الكميات السابقة من السلع الأساسية. بل إن عجز الحكومة عن التعاقد المسبق مع المزارعين ومواجهة احتكارات المواد الغذائية يؤدى بشكل متكرر إلى حدوث أزمات تتمثل فى اختفاء تلك السلع الأساسية (أرز.. سكر.. زيوت طعام) والعجز عن توفيرها للمواطنين.
الأمر المؤكد أن الاقتصاد المصرى يشهد منذ شهر نوفمبر ٢٠١٦ موجة تضخمية غير مسبوقة بلغت معدلات ارتفاع الأسعار فيها نحو ٣٣٪، وذلك كنتيجة مباشرة لتداعيات برنامج الحكومة للإصلاح الاقتصادى وقرارات تعويم الجنيه المصرى ورفع أسعار المنتجات البترولية. البيانات الرسمية تشير إلى أن معدلات التضخم فى الريف، حيث يتركز الفقراء، أعلى منها فى الحضر.
فداحة أثر ارتفاعات الأسعار على مستويات معيشة الفقراء تتضح من حقيقتين، أولاهما أن تلك الارتفاعات قد شملت كل بنود الإنفاق على الحاجات الأساسية من غذاء وكساء ومسكن وتعليم وصحة ونقل ومواصلات. أما الحقيقة الثانية فهى أن بند الطعام والشراب وحده، و الذى يمثل أكثر من ٥١٪ من بنود إنفاق الأسر المصرية عند أدنى شريحة للدخل، قد ساهم بما يتراوح بين ٥٢٪ و ٦٧٪ من إجمالى الزيادة فى المستوى العام لأسعار المستهلكين منذ بداية السنة المالية الحالية. المحصلة النهائية هى عجز متزايد عن الوفاء بتكلفة الحصول على الحاجات الأساسية من الغذاء.. بعض المتخصصين يتوقعون أن يؤدى ارتفاع معدلات التضخم إلى تزايد نسبة الفقراء لتصل إلى ٣٥٪ من السكان.
عدم الوفاء بالوعود التى تم التعهد بها للفلاحين
الواقع أن الحكومات المتعاقبة قد فشلت فشلا ذريعا فى الوفاء بالوعود التى قطعها رئيس الجمهورية على نفسه للفلاح المصرى. ففى سبتمبر ٢٠١٤ تم الاحتفال بعيد الفلاح والإعلان عن مجموعة من القوانين التى تستهدف مساندته وتعويضه عن الكوارث الطبيعية والآفات التى تودى بمحصوله، وتوفر التأمين الصحى للفلاحين والعمال الزراعيين، وتسمح بإنشاء نقابة عامة للفلاحين تعمل على رعاية مصالحهم والدفاع عنهم، وتضع إطارا لتسويق المحاصيل وفقا لنظام الزراعة التعاقدية يضم الفلاح والجمعية الزراعية والشركات الراغبة فى شراء المحصول. الكل استبشر خيرا. إلا أن أيا من تلك القوانين لم يتم تفعيله على أرض الواقع!
العامل الزراعى المصرى لا يزال يحلم بأن يدخل تحت مظلة قوانين العمل والتأمينات الاجتماعية. المادة ٤ من قانون العمل تستبعد العاملين فى الزراعة البحتة. العامل الزراعى لا يزال يحلم بتفعيل قانون التأمين الصحى للفلاحين والعمال الزراعيين رقم ١٢٧ لسنة ٢٠١٤. هذا القانون الذى تم إصدار لائحته التنفيذية منذ عامين، وظل حتى الآن «كعبا دائرا» حائرا بين كل من وزارة الصحة ووزارة الزراعة، يصطدم بعقبة سداد الاشتراكات. العامل الزراعى يحلم بأن يدخل تحت مظلة قانون التأمين الصحى الاجتماعى الشامل الجارى مناقشته، والذى تستبعد مسودته الفلاحين المعدمين وتنص فقط على المزارعين أعضاء الجمعيات الزراعية أى من يملكون أو يقومون باستئجار أراض زراعية وأصحاب مشروعات الإنتاج الحيوانى والتصنيع الزراعى.
وماذا بعد؟
السياسات الاقتصادية التى تمضى الحكومة قدما فى تنفيذها، طبقا لبرنامج قرض صندوق النقد الدولى، يترتب عليها ليس فقط التهاب المستوى العام للأسعار والإطاحة بجزء معتبر من القوة الشرائية لدخول القاعدة العريضة من المواطنين وتخفيض مستوى معيشتهم، وإنما أيضا تخفيض معدلات الاستثمار ومعدلات النمو والتشغيل نظرا لرفع تكاليف الإنتاج فى قطاع الأعمال. السياسات الانكماشية تهدد بزيادة عدد المشروعات التى تضطر إلى إغلاق أبوابها وإشهار إفلاسها، وزيادة عدد المواطنين الذين ينضمون إلى جيش العاطلين والباحثين عن فرصة عمل، وزيادة عدد الملايين الذين يسقطون تحت خط الفقر. الحكومة لا تنفى الآثار الانكماشية لما تطبقه من سياسات، ولكنها تقول إن تلك الآثار ستتلاشى تدريجيا، وبعدها سيبدأ انطلاق الاقتصاد المصرى إلى التعافى والنمو وتزايد فرص العمل ومعدلات التشغيل وبالتالى تحسن أحوال الفقراء..
المؤكد فى كل الأحوال أن معدلات الفقر الحالية تستدعى اتخاذ إجراءات عاجلة لتخفيف أثر السياسات الانكماشية التى يتضمنها برنامج القرض على الفقراء. ولعل من أهم تلك الإجراءات العاجلة:
السيطرة الحقيقية على الأسعار وضبط الأسواق
زيادة قيمة الدعم المقدم من خلال بطاقات التموين إلى المستوى الذى يكفل استمرار حصول المواطن على نفس كميات السلع الغذائية الأساسية التى كانت البطاقات تكفلها قبل ارتفاعات الأسعار.
التوسع فى طرح السلع الاستهلاكية الأساسية بأسعار مقبولة من خلال المنافذ الحكومية المختلفة، بما يغطى كافة أنحاء البلاد، وخاصة فى الأقاليم والأحياء الشعبية.
مد مظلة برامج تكافل وكرامة ومعاشات الضمان لتغطى كل السكان الذين يقعون تحت خط الفقر، والذين يمثلون ما يقرب من ٦ ملايين أسرة.
رفع حد الإعفاء الضريبى على الشريحة الدنيا للدخول إلى الضعف
تعديل قانون إيجارات الأراضى الزراعية بما يكفل استقرار العقود وتحديد القيمة الإيجارية بحسب جودة الأرض والعائد الفعلى لها.
زيادة المقررات الموزعة بالجمعيات الزراعية من مستلزمات الانتاج المدعمة وتسليمها للمزارعين الفعليين وليس الملاك.
تعديل قانون إيجارات المساكن الجديدة بما يكفل عقود إيجار مستقرة و أسسا موضوعية واضحة لتحديد قيمة الإيجار، تأخذ فى الاعتبار تكلفة الأرض والمبانى ومستوى التشطيب واختلاف الموقع.
إن توفير التمويل المطلوب لهذه الإجراءات العاجلة لا يتطلب معجزة. فكل المطلوب هو إجراء التعديلات الضريبية التى طالبت بها الغالبية الساحقة من الاقتصاديين على اختلاف توجهاتهم، والتى يأتى فى مقدمتها فرض ضريبة لمرة واحدة بمعدل ١٠٪ على الثروات التى تتجاوز ٢٠ مليون جنيه، والتطبيق الفعلى للضريبة التصاعدية على دخول الأفراد، بما يرفع معدلات تلك الضريبة لتصل إلى ٣٠٪-٣٥٪ عند شرائح الدخل العليا، واستعادة الضريبة على الأرباح الرأسمالية للمتعاملين فى البورصة وفرض ضريبة على الأرباح الرأسمالية من الأراضى والعقارات، فضلا عن التحصيل الفعلى للضرائب على دخول أصحاب المهن الحرة غير التجارية (أطباء، محامون، مهندسون، محاسبون، فنانون ...الخ).
وحيث إن المواجهة الحقيقية للفقر تتمثل فى توفير فرص العمل الكريم الذى يكفل دخلا مستقرا يفى بالاحتياجات الأساسية للعامل وأسرته. ففى تصورنا أن هناك بالتأكيد دورا مهما يمكن أن تلعبه المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر، فى إطار منظومة تشمل عناصر التمويل الميسر والمعونة الفنية والمتابعة والتدريب والربط بمواقع التسويق.. فهل آن الأوان للإسراع باتخاذ خطوات حقيقية لتنمية وتطوير تلك المشروعات؟