الجمعة 17 مايو 2024

السيسى وسياسة مصر الخارجية نجاح فى مواجهة سيولة النظام العربى

26-5-2017 | 13:22

مع تولى الرئيس عبد الفتاح السيسى الرئاسة فى مصر منذ ثلاث سنوات اهتم الرأى العام ومراكز الفكر والدراسات بالتعرف على سياساته الداخلية والخارجية على السواء، بهدف التعرف على اتجاهات التحرك المصرى فى هذه المرحلة الدقيقة التى يمر بها الشرق الأوسط بتحولات عديدة، ويواجه فيها مخاطر عدة ترتبط بوجوده القومى وليست مجرد مهددات لأمنه القومى، وبالرغم من أن العام الثانى للرئيس مبارك قد انتهى منذ عام مضى بتوتر العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية نتيجة انحياز القوات المسلحة المصرية إلى الشعب فى انتفاضته الثانية فى ٣٠ يونيو لتصحيح مسار الثورة بعد مرور عام من حكم الإخوان المسلمين الذين عمدوا بعد أشهر من توليهم السلطة إلى إقصاء جميع التيارات المدنية السياسية والإبقاء فقط على التيارات الإسلامية بما فيها التيارات الجهادية، وجعلوا من الرئيس الأسبق مرسى إلها لا يخضع لأى نوع من المساءلة، إلا أن هذا العام الثالث للرئيس السيسى فى السلطة انتهى نهاية سعيدة نتيجة تولى الرئيس ترامب السلطة ووجود توافق فى الآراء بينه وبين الرئيس السيسى بشأن بعض الملفات الأساسية فى الإقليم مثل اليمن والعراق وليبيا.

ومن ثم فالهدف من هذا المقال هو محاولة التعرف على أسلوب صنع سياسة مصر الخارجية، والتعرف على المبادئ التى تحكمها منذ انتخاب الرئيس السيسى وحتى اليوم وتقييم مدى نجاحها فى تحقيق الأهداف المتوخاة منها، ومحاولة استشراف مستقبل سياسة مصر الخارجية خلال الفترة الأولى من رئاسته.

أولا: محددات وتحديات السياسة الخارجية:

بداية من المهم الإشارة إلى أن موقع مصر كدولة مركزية فى الشرق الأوسط يحدد الكثير من مبادئ السياسة الخارجية، لأنه يفرض تعدد ارتباطاتها السياسية وأدوارها الإقليمية والعالمية، فهناك ارتباطات سياسية عربية بحكم الانتماء القومى، وأخرى متوسطية، وثالثة إفريقية ورابعة إسلامية وخامسة عالمية بحكم تفاعل مجمل الارتباطات السابقة، ولكن هذه الأدوار المتعددة فى مجملها ناتج تفاعل عاملين مهمين هما الجغرافيا بما تشمله من ثوابت، كالموقع والموضع والموارد الطبيعية والسكانية وعلاقات الجوار، ثم التاريخ بما يشمله من متغيرات مثل توجهات النخبة الحاكمة ونظام الحكم، وطبيعة المرحلة التاريخية، ومتطلباتها وما تفرضه من تحالفات وما تطرحه من تحديات، وبالتالى فهناك قيود يصعب تخطيها أو تجاهلها عند صياغة السياسة الخارجية المصرية مهما كانت قدرات النخبة الحاكمة وتوجهاتها.

كذلك تعود الباحثون عند دراسة السياسات الخارجية للدول التأكيد على أن السياسة الخارجية ما هى إلا امتداد للسياسة الداخلية، كما سبق وأوضحنا، بمعنى أنها ينبغى أن تخدم على السياسات العامة للدولة داخليا، ولكن هذا الارتباط تزايد بتأثير من العولمة وتداول المعلومات بحيث أصبح من الصعب الفصل بين توجهات السياسة الداخلية والخارجية لأى دولة، كما أصبح من الصعب الفصل بين المؤثرات الداخلية والإقليمية بل والدولية على البيئة الاستراتيجية للدولة، وهو ما اسهم فى ظهور أنماط جديدة من الأداء الدبلوماسى تعكس طبيعة العصر وتحدياته من جانب ونظام الحكم وأهداف الدولة من جانب آخر، ولعل فى مقدمتها الدبلوماسية الشاملة والدبلوماسية العامة الحديثة.

ومن ثم فإن صنع السياسة الخارجية لمصر يتأثر بما تمر به منطقة الشرق الأوسط من تغييرات عميقة تمس الوجود القومى لدول المنطقة عامة ولدول محورية فى النظام الإقليمى العربى مثل العراق وسوريا وليبيا واليمن، إضافة إلى انشغال دول أخرى بأوضاع إقليمية أو داخلية لإعادة ترتيب الأوضاع مثل السعودية واليمن وليبيا، وانعكاسات التغيير على البيئة الاستراتيجية لمجمل الشرق الأوسط ككل، ومن أولى هذه الدول مصر، وهذه التغييرات تفرض تحديات غير مسبوقة على الأمن القومى المصرى وتشمل:

١- تعرض المنطقة لموجة جديدة من الإرهاب الذى يستهدف إقامة خلافة إسلامية تتعارض ومقومات الدولة القومية، كما تعارف عليها المجتمع الدولى منذ صلح وستفاليا، بما يؤثر سلبا على الخريطة الجغرافية للإقليم، كما تعارفنا عليها منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى وسقوط الإمبراطورية العثمانية، وبما يؤثر سلبا على الخريطة الاستراتيجية للإقليم، وهو ما يفرض على الأمن القومى المصرى تحديات جديدة غير مسبوقة، مثل تواجد جماعات الإسلام الجهادى على حدودها المجاورة لسيناء والحدود الجنوبية والغربية فى أن واحد مع وجود خلايا نائمة لهذه التنظيمات فى العمق المصرى واستمرار المحاولات لتهريب السلاح والمخدرات إلى داخل العمق المصري، ولعل القضاء على فوج من ١٥ سيارة نقل تسعى لتهريب السلاح لمصر عبر حدودها الغربية والقضاء على إحدى الخلايا الإرهابية فى سوهاج فى أقصى جنوب مصر خير مثال على ذلك.

٢- تغير العلاقة بين الحاكم والمحكوم بتأثير من ثورات الربيع العربى وتزايد نسبة الشباب المتعلم وزيادة تطلعاته وطموحاته، مما أدى إلى تغير العلاقة بين الدولة ومؤسساتها من ناحية والمجتمع ومكوناته من ناحية أخرى، وهو ما ترفضه الثورة المضادة التى تسعى إلى شيطنة الربيع العربي، وهذه الثورة المضادة ممثلة فى رجل الحكم الذى قبع فى السلطة ثلاثين عاما، وانضم اليهم عدد من رجال الأعمال الذين فقدوا امتيازاتهم وكذلك أعضاء جماعة الإخوان المسلمين وجميعهم يسعون لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، مما انعكس فى شكل استقطاب سياسى حاد فى المجتمع المصري، فالثورة المضادة مازالت تسعى للعودة إلى مسرح الأحداث.

٣- تزايد دور الرأى العام فى صياغة السياسات العامة للدولة بشقيها الداخلى والخارجى، وهو ما أدى إلى تقلصات فى مصر نتيجة عدم إدراك تغير القيم لدى قطاع كبير من السكان، وهو قطاع الشباب وهو ما تجسده أزمة التصريحات غير المناسبة التى تصدر عن عدد من الوزراء وكبار المسؤولين، وأدت إلى استقالة وزير العدل مثلا وهو ما أدى أيضا إلى تغييرات عديدة فى الحكومة لتحسين الأداء.

٤- تغير العلاقة بين مصر ودول المنابع لحوض النيل، إثر الخلاف الذى نشب بشأن عدم توقيع مصر الاتفاق الإطارى لدول حوض النيل، مما مكن إثيوبيا من بناء سد النهضة الذى يؤثر سلبا على مصر خلال فترة ملء الخزان من جانب ويرهن الأمن المائى لمصر بإثيوبيا مستقبلا، وهو وضع خطير لم يسبق لمصر مواجهته، مما يدفع القيادة المصرية إلى التفكير خارج الصندوق لحل هذه المشكلة.

٥- نتيجة عدم الاستقرار السياسى والأمنى طوال السنوات الأربع الماضية ونتيجة محاولات الثورة المضادة لإعادة عقارب الساعة للوراء ونتيجة اتخاذ خطوات غير مسبوقة فى عملية الإصلاح الاقتصادى وتحرير سعر الصرف تدهورت الأوضاع الاقتصادية فى مصر تدهورا غير مسبوقا أيضا، وارتفعت الأسعار ارتفاعا جنونيا فى ظل تراجع الأداء الاقتصادى لأدنى معدلاته وانخفض الاحتياطى النقدى إلى حد الخطر مع تدهور الخدمات والبنية الأساسية، وهى أوضاع تفرض تحديات داخلية مطلوب حلها والسيطرة عليها بتدخل حكومى مباشر.

٦- تدهور علاقات مصر ببعض الدول الإقليمية مثل تركيا وقطر وإلى حد ما السودان، نتيجة اختلاف التوجهات السياسية بشأن كيفية التعامل مع منظمات تيارات الإسلام السياسى وبخاصة التيارات الجهادية والإخوان المسلمين، وتحديدا تلك المنظمات الموجودة على حدود مصر الدولية فى الشمال الشرقى مثل انصار بيت المقدس التى أعلنت الولاء لداعش وتلك الموجودة فى ليبيا على الحدود الغربية ونتيجة علاقة قطر وتركيا بهذه الجماعات، وبشأن بعض الملفات الهامة بالمنطقة مثل سوريا والعراق وليبيا وهى أوضاع تفرض على مصر تحديات جديدة لم تكن مطروحة من قبل.

٧- تغير مفهوم الأمن نتيجة الثورة الرقمية التى شملت مجال المعلومات أساسا وظهور مؤشرات عديدة للأمن الناعم، وهو نمط جديد من المهددات تخلو من الوجود البشرى مما يؤدى إلى تغيير مفهوم الجريمة ويلقى فى نفس الوقت بأعباء جديدة على عاتق الدبلوماسية المصرية والقوات المسلحة والشرطة.

٨- تدهور الأمن الإقليمى العربى تدهورا حادا وخاصة بعد فرض أربع مناطق آمنة فى غرب سوريا والخطر يأتى من إقرار هذه المناطق كبداية أو كخطوة أولى نحو تقسيم سوريا على أسس عرقية ومذهبية.

والخلاصة فى هذا المجال أن هناك إدراكا من القيادة المصرية للتحديات الجديدة المتعددة التى تواجهها مصر من مختلف الاتجاهات، إضافة للتحديات القديمة التى تتعلق بتزايد أعداد من يعيشون تحت خط الفقر وغياب العدالة الاجتماعية، وهو ما يتطلب منها أداء استثنائيا سواء فى المجهود أم فى أسلوب التعامل مع هذه التحديات لمحاولة تحييدها على الأقل، خاصة أن إدراك الرئيس لكيفية مواجهة الإرهاب بدون تدخل خارجى وباتباع تكتيكات جديدة غير تقليدية تأتى بثمار ممتازة خلال المرحلة السابقة.

ثانيا: من يصنع القرار فى مصر:

صناعة السياسة الخارجية لأى دولة عملية معقدة للغاية، فمن الناحية النظرية تتطلب التنسيق بين مختلف أجهزة الدولة باعتبار أن السياسة الخارجية ما هى إلا البرنامج السياسى الوطنى للدولة فى الخارج، ومن ثم تشارك فيها مختلف الوزارات والهيئات الخارجية، وتقوم وزارة الخارجية بالإشراف على تنفيذ هذا البرنامج فى الخارج بمعاونة عدد محدود من هذه الهيئات، وبالرغم من ذلك فإن أكثر الجهات تأثيرا فى صنع السياسة الخارجية هى الجهات السيادية مثل المخابرات العامة التى تعد جزءا لا يتجزأ من رئاسة الجمهورية، والمخابرات الحربية التى تعد الأكثر إحكاما على محاور ومصادر التهديدات الخارجية، والهيئة العامة للاستعلامات المناط بها حماية وترويج الصورة القومية لمصر فى الخارج.

وكل ما تقدم من هيئات يأتى بعد جهود رئيس الجمهورية ووزير الخارجية اللذين يقومان بالعبء الأكبر لرسم هذه السياسة وتحديد أهدافها، ولكن من الملاحظ من الناحية العملية ومع تولى الرئيس السيسى مهام رئيس الدولة اتجهت عملية صياغة السياسة الخارجية إلى التركز فى يده، وأضحى دور وزير الخارجية تنفيذيا بالدرجة الأولى وهو وضع يستهدف تأكد الرئيس من تحقيق الأهداف التى يتوخاها فى مرحلة تتسم بعدم اليقين السياسى والتغييرات الحادة فى البيئة الاستراتيجية للدولة وتحولات مواقف دول عديدة فى المنطقة بشأن الملفات الأمنية الرئيسية فى المنطقة ومن ثم وضع نصب عينيه برنامجا سياسيا يتواكب وطبيعة المرحلة التى تمر بها مصر والتحديات التى تواجهها كما سنحدد فيما بعد.

ثالثا: السيسى ومبادئ وأهداف سياسة مصر الخارجية:

عكست تصريحات الرئيس السيسى ووزيرى الخارجية، السيد نبيل فهمى ثم السيد سامح شكرى الذى خلفه فى المنصب، مجمل التوجهات الحاكمة لسياسة مصر الخارجية وقد شملت عدة مبادئ هامة تمثل تطويرا للسياسة الخارجية بعد ثورة ٢٥ يناير وانقطاعا عن سياسة سلفه السابق الرئيس محمد مرسى، بل وعن سياسات الرئيس الأسبق مبارك أيضا وأول هذه المبادئ عدم تقديم أى تنازلات للخارج بشأن سياسة مصر الداخلية، فقد أضحت سياستنا الداخلية خطا احمر لا ينبغى التدخل فيه لأى سبب، حتى وان كان هذا التدخل مشروطا بتقديم مساعدات أو بإعادة قطع سلاح تم إرساله للصيانة لدولة عظمى مثل الولايات المتحدة، فما حدث فى مصر فى ٣٠ يونيو يمثل ثورة بكل ما تحمل الكلمة من معان، كما أن انحياز الجيش للشعب فى تحركه لإزاحة الإخوان عن السلطة لم يكن انقلابا بقدر ما كان تأكيدا للشرعية الواقعية التى نادى بها شعب مصر فى ميادين التحرير على مستوى الجمهورية، ومن أراد التعامل معنا على هذا الأساس فأهلا وسهلا ومن نأى بنفسه فله ما يشاء، أما نحن فماضون فى طريقنا وهذا المبدأ يقابله التزام مصرى ذاتى بعدم التدخل فى شؤون الغير وقد وضح هذا الالتزام بصورة جلية فى مواقف مصر الرسمية من محاولة الانقلاب الفاشل فى تركيا وكذا موقفها من الاستفتاء على بعض المواد الدستورية الواردة بالدستور التركى.

وثانى هذه المبادئ تحقيق قدر اكبر من التوازن فى سياستنا الخارجية، فعلاقاتنا الاستراتيجية بواشنطون لم تعد تعنى إهمال باقى القوى السياسية فى العالم، ولذا زار الرئيس روسيا وفرنسا والصين ووقع مع الصين وروسيا – كل على حدة- اتفاقيتى شراكة استراتيجية، كما زار معظم الدول الأوربية ذات الثقل لمصر ومن بينها بريطانيا، كما زار الولايات المتحدة الأمريكية زيارة دولة، بل وتم تأكيد أن انفتاح السياسة الخارجية لمصر على هذه القوى إجمالا لن يكون على حساب أطراف وقوى دولية أخرى، فالعالم قد ازداد انتشارا واتساعا فاصبح يتكون من حوالى ٢٠٠ دولة بعد أن كان قد بدأ بحوالى خمسين دولة فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، ويشمل أيضا قرابة ٢٢٥ منظمة دولية حكومية تابعة للأمم المتحدة، كما أنه يشمل بضع مئات من المنظمات غير الحكومية للمجتمع العالمى مثل منظمة العفو الدولية ومختلف المنظمات الحقوقية العالمية العابرة للقومية مثل أطباء بلا حدود ومراسلين بلا حدود والمنظمات المدافعة عن حقوق المرأة والطفل، إضافة إلى منظمات الجريمة المنظمة التى أصبحت تؤخذ فى الاعتبار ومن أمثلتها المنظمات العاملة فى تهريب للسلاح أو الأطفال، أو النساء أو المخدرات ولكن اخطر هذه المنظمات تلك التى تواجه الدول حاليا وتسعى لاستقطاع أجزاء من بعض الدول العربية لإقامة خلافة إسلامية وفى مقدمتها تنظيم الدولة الإسلامية فى العراق والشام المعروف باسم داعش وتنظيم أنصار بيت المقدس وخلافه، والجدير بالذكر أن بعض الباحثين والمفكرين العرب يطلقون على هذه التنظيمات أنها تنظيمات مسلحة من دون الدولة إلا أننى اعترضت على هذا المسمى فى المؤتمر الثالث لدراسات الشرق الأوسط الذى أقيم فى مدينة هاتاى بتركيا من ٦-٩ أبريل من العام الماضى وفى محافل دولية أخرى واطلقت عليها منظمات الجريمة المنظمة وقد لقى اعتراضى ترحيبا حارا من المشاركين فى المؤتمر، فالعالم صار أكثر تعقيدا من ذى قبل.

وثالث هذه المبادئ أو التوجهات أن التعامل مع الإرهاب ينبغى أن يتسم بالحسم والشمول، بمعنى ضرورة مواجهة الإرهاب وفى كل صوره، والعمل على قطع خطوطه للإمداد والتمويل بالمال والسلاح إضافة إلى ضرورة القضاء على قياداته باستمرار، وعدم الاقتصار على مواجهة تنظيم دون آخر، مع أولوية مواجهة الإرهاب فى الداخل وعلى حدودنا ورفض فكرة مشاركة تنظيمات يراها البعض تمثل الإسلام المعتدل فى الحكم، فليس لدينا سوى إسلام واحد ولكن فهمنا له يختلف من شخص لآخر، وجميع تنظيمات الإسلام السياسى وبدون استثناء متطرفة فى فهمها للإسلام ومن ثم فإن دخولها المحافل السياسية بشعارات دينية يعكس قدرا من التطرف الذى جعلها تخلط بين الدين المطلق والسياسة النسبية، بين الدين الثابت والسياسة المتغيرة، بين الدين الذى يبحث عن الحلال والحرام والسياسة التى تبحث فى الممكن والمتاح.

ورابعها التعامل بحسم مع مهددات الأمن القومى مع محاولة استثمار بعض الفرص التى تنطوى عليها هذه التهديدات، مثل السعى لتحويل نهر النيل إلى فرصة بدلا من التعامل معه كتهديد فقط، وقد أمكن للرئيس السيسى إجراء هذا التحول بفضل التفكير من خلال توقيع اتفاق مبادئ بين مصر والسودان وإثيوبيا ينص على عدم الضرر والتشاور الدائم بعد أن جمدت المباحثات لفترة طويلة نتيجة رفض مصر التوقيع على الاتفاق الإطارى لاستخدامات مياه نهر النيل والذى تسبب لنا فى كارثة قومية بلا داع.

وخامسها أن الأمن القومى العربى خط احمر ومن ثم الاهتمام بتفعيله ودعمه لمواجهة الإرهاب، ومن هنا تكتسب زيارة الرئيس السيسى للجزائر وزياراته المتعددة لدول الخليج أهميتها للتنسيق معها فى مواجهة الإرهاب فى الساحل والصحراء على جانبى خط التماس العربى الإفريقى، كما تأتى أهمية الرسالة الخطية التى بعث بها للملك محمد السادس ملك المغرب، وكذا نجاحه فى احتواء أى خلافات مع دول الخليج العربى فالتهديدات التى تواجه امتنا العربية اخطر من كلمة تقال هنا أو هناك ولكل حدث حديث، وهنا تجدر الإشارة إلى أن تصريحات الرئيس السيسى تعكس ضمنيا توجها هاما يشير إلى أن الأمن القومى لكل دولة عربية على حدة لن يتحقق إلا فى إطار الأمن القومى العربي، وهو اتجاه حديث فى الدراسات الأمنية يشير إلى أن مفهوم الأمن القومى لكل دولة قد انتقل من المستوى الوطنى إلى المستوى الإقليمى فى ظل إعادة ترتيب أولويات الأمن إلى الأمن الإنسانى والأمن الوطنى وتحققهما بكل دولة على حدة، والأمن القومى أو الإقليمى وهو وإن كان أمنا يخص كل دولة على حدة إلا انه لن يتحقق إلا فى إطار إقليمى، ثم الأمن العالمى الذى يعد مسؤولية الأمم المتحدة وينبغى أن يتم تحقيقه وفقا لميثاقها من جانب وفى اطار النظام العالمى السائد من ناحية ثانية وطبيعة علاقاتها بالدول الأعضاء من ناحية ثالثة.

وهنا من المهم أن ننوه إلى مساعى الرئيس لإنشاء القوة العربية الموحدة التى قررت بعض دول الخليج التريث فى إنشائها وهى خطوة أثبتت وضوح الرؤية المصرية من البداية التى طرحت المبادرة.

وسادسها أن استعادة مصر لدورها العربى لن يتأتى إلا فى إطار تعدد دوائر هذا الدور، فمصر تتعدد انتماءاتها السياسية فهى دولة عربية أولا ومن ثم فمن المهم العمل أولا على تنقية الأجواء العربية من أى شوائب سياسية ثم تستعد لمواجهة المستقبل وهو ما دعاها لاقتراح تشكيل قوة عربية مشتركة على القمة العربية بشرم الشيخ، كما أنها دولة أفروآسيوية ثانيا، ومن ثم فقد كان لزاما عليها استعادة علاقاتها القوية ودورها الحاسم فى إفريقيا، وهنا أود التأكيد على دورها الإفريقى عامة وليس دورها فى دول حوض النيل، فمعظم الدول الإفريقية تحررت فى ستينيات القرن العشرين بفضل ودعم مصر، ولذا يندر أن تزور دولة إفريقية دون أن يكون الشارع الرئيسى فيها باسم جمال عبد الناصر، كما يندر أن تجد رئيس المجلس الإسلامى الأعلى قد تلقى تعليمه الدينى فى محفل آخر بخلاف الأزهر الشريف.

كذلك اهتمت مصر بدورها الآسيوى وبدأت فى تطويره انطلاقا من علاقاتها بالصين واليابان والهند وقد استشعرت باقى الدول الآسيوية أهمية هذا الدور، فإذا بالهند وباكستان وبنجلاديش يسعون لبحث إمكانية تطوير علاقاتهم بمصر عن طريق استخدام مسار الدبلوماسية البديلة أو الثانية أى عن طريق زيارات وفود لمراكز الفكر والدراسات، وعن طريق دعوة هذه المراكز المصرية إلى مؤتمرات فى الخارج تنظمها هذه الدول، وهو ما ينقص الدبلوماسية المصرية الآن، إذ ينبغى على وزارة الخارجية أن تنشط فى مجال المسار الدبلوماسى الثانى بنفس قدر نشاطها فى المجال الدبلوماسى المعتاد، خاصة أن تعدد الأدوار المصرية يعمل بنفس نظرية الأوانى المستطرقة أى أن البدء بدور فى المسار الثانى على مستوى مراكز البحوث مما يؤهل بعد ذلك لانسياب هذا الدور فى مجال رسمى.

ومصر دولة متوسطية ثالثا ويهمها تنشيط علاقاتها بدول الاتحاد الأوربى عامة ودول المتوسط ثانيا بما يساعد على حل الكثير من المشكلات ويفتح آفاق التعاون ولذا زار الرئيس السيسى كلا من إيطاليا والفاتيكان وفرنسا مرتين وإسبانيا واليونان وقبرص.

ومصر رابعا دولة إسلامية وأزهرها الشريف يلعب دورا هاما فى المجالين الإفريقى والآسيوى، كما أن الكنيسة الأرثوذكسية المصرية تلعب دورا هاما فى بعض الدول الأوربية والإفريقية مثل اليونان وقبرص وروسيا وإثيوبيا.

وإضافة لذلك فإن مصر بثقلها الإقليمى الشرق أوسطى وتعدد أدوارها العربية والإفريقية والآسيوية والمتوسطية تصبح دولة على طرح إسهامات عملية متعددة فى الإطار العالمى وهو دور ينبغى تنشيطه فى القريب العاجل.

والخلاصة أنه رغم صعوبة التحرك فى المجال العربى فى الوقت الراهن إلا أن الرئيس السيسى خلال السنوات الثلاث الماضية، نجح فى السيطرة على سياسة مصر الخارجية، كما نجح فى توجيهها لتحقيق أهداف عجزت عن تحقيقها عبر ثلاثين عاما فى عهد الرئيس السابق مبارك، كما استطاع بنجاح تحقيق قدر أكبر من التوازن فيها والحفاظ على درجة عالية من الاستقلالية وهو أمر بلا شك محسوب له.