السبت 20 ابريل 2024

من روائع الآثار المصرية في المتاحف العالمية (33)

مقالات18-9-2021 | 21:27

"حجر باليرمو".. متحف آثار "أنطونيو ساليناس" الإقليمي في باليرمو بإيطاليا

حرص المصري القديم على تسجيل تاريخه، وتاريخ بلاده، الضارب في أعماق الزمان، منذ أن اهتدى إلى الكتابة ووعى قيمة التسجيل والتدوين. ولقد كشفت أعمال الحفر والتنقيب عن الكثير من الآثار، التي تناولتها الدراسات الأثرية بالاهتمام والبحث وساعدت في إماطة اللثام عن الكثير من تاريخ مصر القدم، وفتحت لنا أبواباً كانت مغلقة عن فترات تاريخية مجهولة فيه، لم نكن نصل إليها إلّا من خلال ما تم تدوينه، وتسجيله، وتصويره، من أحداث تاريخية مكتوبة على صحائف البردي، أو منقوشة ومصورة على جدران المعابد والمقابر، أو منقوشة على لوحات تذكارية حجرية أو خشبية. 
ولم يكتف المصري القديم بتسجيل الأحداث والأمور المهمة في تاريخ بلاده، بل اهتم بتسجيل التاريخ نفسه، وأرَّخ لملوكها وأحوالها، فكانت مثل هذه المحاولات التأريخية التي ظهرت في صورة حوليات حجرية من عهد الدولة القديمة، أو في صورة بردية تحمل قائمة لملوك مصر في عهد الدولة الحديثة، إلى كتاب من كاهن ومؤرخ مصري في بداية العهد البطلمي، لتشكل سليلة من حلقات تأريخية لمصر القديمة وملوكها، كانت خير معين على دراسة تاريخ مصر العريق.


ويعد "حجر باليرمو" Palermo Stone أحد مصادر التاريخ المصري القديم، ومن أهمها وأقدمها، بل ومن أتقنها وأكثرها دقة ومنهجية، وان اقتصر على تاريخ الدولة المصرية القديمة حتى الأسرة الخامسة وما قبلها. وهو قطعة حجرية، كانت جزءاً من لوحة تذكارية قديمة، تعرف باسم "الحوليات الملكية للدولة القديمة"، يعود تاريخها إلى نهاية عصر الأسرة الخامسة (حوالي 2392-2283 ق.م)، تعرضت إلى للكسر إلى سبع قطع حجرية، خمس منها في المتحف المصري بالقاهرة، تمت حيازة أربعة منها بين عامي 1895 و1914، أما الخامسة فقد تم شراؤها عام 1963 من سوق للأشياء القديمة، كما يوجد جزء صغير في متحف "بتري" للآثار المصرية في كلية لندن الجامعية، وكانت جزءًا من مجموعة عالم الآثار الإنجليزي "فلندرز بتري"، حيث قام بشرائها عام 1914.


أكبر القطع السبع تلك القطعة الموجودة في متحف آثار "أنطونيو ساليناس" الإقليمي في مدينة باليرمو، الإيطالية، ومنها أخذ اسمه عالمياً بــ "حجر باليرمو"، وأحياناً ما تطلق عبارة "حجر باليرمو" على الأجزاء السبعة الباقية من الحوليات الملكية بما في ذلك تلك الأجزاء الخمسة المحفوظة في المتحف المصري بالقاهرة، ومتحف بتري في لندن.


تشكّل هذه القطعة الحجرية الموجودة في "باليرمو"، والأجزاء الستة الأخرى المكملة لها، مصدرًا أساسيًا لتاريخ مصر في فترة الدولة القديمة وما قبلها، وأقدم محاولة تأريخية في مصر القديم وربما العالم القديم، بصورة ليست بالمختزلة أو الموجزة، فهي لا تشتمل على معلومات عن أسماء ملوك مصر فيما قبل التوحيد وما بعدهن وحتى الأسرة الخامسة من الدولة القديمة فحسب، بل تسجل ما حدث في كل حول "عام" من أعوام حُكم كل ملك تمَّ ذكره فيها، ولهذا سميت بالحوليات، بل تمدنا بمعلومات أخرى متعلقة بالظروف الاقتصادية، والاجتماعية، منها: قياس منسوب الفيضان مقدراً بالذراع المصري، إحصاءات عن أعداد الماشية وكميات الذهب مساحات الحقول المزروعة والضرائب المفروضة، وذكر للأحداث العسكرية، والمنشآت البنائية، والاحتفالات والأعياد الرسمية. إننا أمام سجل تاريخي وافٍ، وقاعدة بيانات، وبنك معلومات عن فترة تاريخية مهمة من تاريخ مصر العتيق، وكانت بمثابة مصدراً تاريخياً اعتمد عليه من جاء بعده في تأريخ تاريخ مصر القديم.
  
وحجر باليرمو قطعة حجرية من البازلت الأسود، سميت بهذا الاسم انتساباً كما قلنا إلى مدينة "باليرمو" الإيطالية، عاصمة إقليم صقلية الذاتي الحكم وأكبر مدنه، حيث يوجد الحجر في أحد متاحفها وهو متحف آثار "أنطونيو ساليناس" الإقليمي.


يمتلك هذا المتحف واحدة من أغنى مجموعات من الفن اليوناني القديم في إيطاليا، وعن تاريخ صقلية، تم شراؤها أو التبرع بها للمتحف. كان المتحف سابقًا ملكًا لخطابة القديس "فيليب نيري" ، وقد تم تسميته باسم "أنتونينو ساليناس"، عالم آثار وعالم نقود مشهور من باليرمو شغل منصب مديراً للمتحف في الفترة من عام 1873 حتى وفاته في عام 1914، وتشكل مجموعة الخاصة التي تبرع بها الجزء الأكبر من مجموعة المتحف. ويحتوي المتحف على مجموعة من الآثار المصرية، أهمها القطعة الحجرية المنسوبة إلى هذا المتحف والمعروفة عالمياً بـ "حجر باليرمو". 
يتوقع البعض، وبناء على أحجام الأجزاء الحجرية السبعة، أن تكون أبعاد اللوحة الأصلية حوالي 70سم ارتفاعاً و2.1م عرضًا، بينما يتراوح أبعاد حجر باليرمو ما بين 43.5 سم طولاً و25 سم عرضًا و6.5 سم سماكةً (في أعظمها سمكاً).


تكمن أهمية الحجر التاريخية والأثرية في كونة يمثِّل وثيقة تاريخية ذات أهمية خاصة في تاريخ مصر القديم، فهو يتضمن تقويم زمني لملوك مصر القديمة بعد توحيد مصر السفلى ومصر العليا بدءًا من الملك نارمر، وقائمة ملوك مصر منذ عصر الأسرة الأولى حتى أواسط الأسرة الخامسة، من بينهم: الملك "سنفرو"، والملك "خوفو"، وملك "جدف رع"، وأخر ملك ذكر اسمه هو الملك "نفر اير كا رع"، وهو ما رجح أنه كتب فى عهده. كما يسجل الحجر أحداثًا مهمة في كل سنة من سنين حكمهم. 


يظهر هذا التقويم الزمني في شكل خانات أسفل خلايا النصوص الهيروغليفية المحفورة على الحجر، وكل خانة تشير إلى الامتداد الزمني أو العمري لأحداث الخلية التي تعلوها. وكان كل وجه، من وجهي الحجر، مقسماً الي أقسام مختلفة، وفي كل خانه يوجد نقش قصير يعبر عن اسم الملك، واسم امه، وارتفاع فيضان النيل في سنوات حكم الملك الذي كان يحكم في ذلك الوقت، وأيضا إحصاء بعدد الماشية، وكميات الذهب، وإحصاء بمساحات الحقول، والضرائب المفروضة، إضافة إلى أحداث كل عام، سواء منها المجهودات الحربية، أو تشييد المعابد والمباني والمنحوتات، والاحتفالات المهمة مثل: احتفال تتويج الملك أو عيد الجلوس على العرش. وكان تحت كل اسم من اسماء الملوك يصور الملك وهو يرتدي أحد تاجي القطرين الشمالي والجنوبي.


تحوي النقوش على واجهة الحجر ستة صفوف من الكتابة الهيروغليفية تتجه من اليمين إلى اليسار، يشتمل الصف الأول منها أسماء ملوك لمصر السفلى (المعروف عنهم ارتداء التاج الأحمر) من فترة ما قبل الأسرات حيث كانت مصر مقسمة إلى مصر العليا اليت يرتدي ملوكها تاجاً ابيض اللون، ومصر السفلي الذي يرتدي ملوكها تاجاً احمر اللون. أما الصفوف من الثاني وحتى الأخير فتحوي أجزاء من حوليات ملكية لملوك مصر من الأسرة الأولى وحتى الرابعة، محددة بالأحداث المهمة في كل عام من فترة حكم كل ملك مرتبةً زمنيًا. ويبدأ الصف الثاني بدخول السنة الأخيرة لملك من الأسرة الأولى لم يحفظ اسمه، من المفترض أنه "نارمر" أو "عحا"، ويُشغل باقي الصف الثاني بدخول الحوليات التسعة الأولى لخليفة هذا الملك الذي لم يذكر اسمه أيضًا، ويفترض أنه إمّا "عحا" أو خليفته "جر"، وتكمَّل النقوش على ما تبقى من هذا الوجه بحوليات ملكية حتى ملوك الأسرة الرابعة.


أما في خلفية الحجر فقد دونت أحداث خلال فترات حكم ملوك مصر حتى الملك "نفر إر كا رع"، وهو الحاكم الثالث من الأسرة الخامسة. ومن غير الواضح، من خلال الأجزاء الباقية، ما إذا كانت الحوليات الملكية في الأصل مستمرة بعد هذه النقطة الزمنية أم لا؟ ويلاحظ أيضًا ذكر اسم أم الملك مثل "بترست" أم الملك "سمر خت" من الأسرة الأولى، و"مِريس انخ الأولى" أم الملك "سنفرو" من الأسرة الرابعة.


وهناك اختلاف حول أصالة هذه الحوليات، أو بالأحرى الفترة الزمنية التي تنتمي لها، وما إذا كانت بالفعل تعود إلى عصر الأسرة الخامسة، الدولة القديمة، أم إلى عصر لاحق لها ومتأخر عنها بكثير؟ 
يقول البعض أن تاريخ حجر باليرمو، والحوليات الملكية التي يسجلها، نقشت في فترة زمنية لاحقة، ويبدو واضحًا من محتوى النقوش أن الحوليات الملكية كما حفظت على حجر باليرمو والأجزاء الأخرى لم يتم نقشها في خلال الفترة التي تصفها ولا بعدها بقليل، ومن الممكن أن يكون حدث ذلك في عصر الأسرة الخامسة والعشرين (774-656 ق.م)، وأنها تعتمد مباشرة على نسخة أصلية تعود لفترة المملكة القديمة. وإذا كان النص لنسخة لاحقة عوضًا عن نسخة الأسرة الخامسة الأصلية، فيوجد احتمال بوجود أخطاء تسببت بها عمليات النسخ، ويفسر ذلك صعوبة حل رموز النص بسبب حالة حفظ النقوش (وهي تختلف حسب الأجزاء) وقدمها. 


وهناك خلاف أيضاً حول ما إذا كانت الأجزاء الباقية تعود لنفس اللوحة، أو إلى نسخ مختلفة، وقد اثيرت شكوك حول أصالة في هذا جميع الأجزاء المحفوظة في المتحف المصري بالقاهرة لعدم وجود مصدر واضح لأي منها.