الأربعاء 29 مايو 2024

السفارة والإدارة والفكر الصهيونى بين القدامى والمحدثين

2-2-2017 | 12:51

سفير د. رضا شحاتة

قليل من التاريخ قد ينعش الذاكرة الوطنية لاسيما إذا كان هذا التاريخ لم يعد محصوراً فى ماضٍ طويت أيامه وانقضى زمانه بل هو حاضر حى شديدة الوطأة والأثر، بل هو مستقبل لا تملك حتى مفاتيح رؤيته المقلقة وراء غلالات شديدة الكثافة من السرية والغموض، ذلك التاريخ، بماضيه وحاضره ومستقبله، الذى ضاع من أجيال سابقة ماضية، وأخفقت أجيال حاضرة فى أن تسيطر على أقداره ومصائره، وتكاد أجيال المستقبل تفقد الوعى بدروسه وعظاته، ذلك هو تاريخ الصراع العربى الإسرائيلى الذى تقترب من أحد أكثر فصوله إثارة وجدلاً مع بدايات هذا العام ٢٠١٧ وتولى الإدارة الجمهورية الجديدة فى البيت الأبيض من العشرين من هذا الشهر.

التاريخ غير البعيد يقول لنا إن إعلان بلفور الذى أصدره وزير الخارجية البريطانى “أرثر بلفور» فى الثانى من نوفمبر ١٩١٧ أى منذ من مائة عام (فى نوفمبر القادم) أن عدد سكان فلسطين العرب التى وعد بها (وطناً قومياً) للشعب اليهودى كان ٦٠٠٠٠٠ ، ولم يكن عدد السكان اليهود عندئذ يتجاوز ٥٦٠٠٠ أى أقل من عُشر (١٠٪ من الشعب الذين تجاوزا ٩٠٪) من مجموع السكان أى ما يمثل تكذيباً ونسفاً لهذا الوعد (الموصوم) بعدم الإضرار أو المساس بالحقوق المدنية أو الدينية للعرب، فإذا بالإعلان ينسف كافة الحقوق السياسية نسفاً منذ عقود طويلة حتى تأتى سياسات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة عملية أو ليكودية خاصة فى ظل رئيس الحكومة الإسرائيلية المخضرم (ناتانياهو) ليطبق سياسة (الاستيطان) لا ترى للعرب حقاً فى الأرض ولا فى إسرائيل ١٩٤٨ ولا فى يهود والسامرة ( الضفة الغربية المحتلة) ولا فى القدس ١٩٦٧ وذلك كله مصداقاً وتحقيقاً وتنفيذاً ليس فقط لحلم (تيودور هرتزل) فى كتابه عن “الدولة اليهودية» ١٨٩٦ حين أعاد توصيف اليهود بأنهم ليسوا مجرد جماعة دينية بل إنهم يمثلون أمة تنتظر الميلاد أى (أمة فى مرحلة المخاض) وأن لحظة المخاض تلك قد جاءتها فى المؤتمر اليهودى الأول فى “بازل” ١٨٩٧ الذى أعلن أن هدف الصهيونية هو إقامة وطن للشعب اليهودى فى فلسطين بل ويطرح من جديد التساؤل التاريخى المدمر لآلاف السنين من التاريخ الفلسطينى “هل كان عرب فلسيطن يمثلون يوماً كياناً متميزاً، واذا كانوا يمثلون هذا الكيان المتميز، فكيف يكون موقف الصهيونية منهم داخل الدولة اليهودية .
ـ هذه الأسئلة ليست للأسف أسئلة الأمس أو إشكاليات الأمس فقط، بل هى اليوم أسئلة الحاضر وإشكاليات المستقبل أيضاً التى تفرض علينا جميعاً عرباً وفلسطينيين، حكاماً ومحكومين، قادة وشعوباً أن تقف وتنظر من جديد إلى ما وصلت إليه القضية الفلسطينية، وهى اليوم إما أن تكون أو لا تكون فى وقت تتجلى فيه حقائق وتطورات وشواهد يجب ألا تستتر بعد الآن وراء سراب خادع ووهم كاذب اشتراه البعض أو باعه لنا خصومنا فى زمن الضعف والتمزق والسقوط.

ـ هذه الرؤية التى تبناها المؤسسون الأوئل للصهيونية وللوطن القومى لليهود فى فلسطين منذ (تيودور هرتزل) فى كتابه الدولة اليهودية، ومنذ (هاييم وايزن) مهندس التحالف بين الحركة الصهيونية وبريطانيا العظمى (١٨٧٤ – ١٩٥٢) ومنذ إعلان بلفور١٩١٧ الذى يعود الفضل فيه (لوايزمان) بل ومنذ “حابوتنسكى فيلسوف الصهيونية الحديثة فى عشرينات القرن الماضى الذى قال “ليس المهم ما هو موقف إسرائيل من العرب ـ بل المهم ما هو موقف العرب من إسرائيل، وهو الذى آمن، وآمن معه قادة إسرائيل اليوم أن العرب سوف يقاومون إسرائيل ما دام لديهم بارقة من الأمل فى الحيلولة دون تحويل فلسطين إلى أرض إسرائيل (فما هى الصورة اليوم، ما هو عدد المستوطنات وعدد المستوطنين، وإسرائيل الخيار اليوم، وذلك لم يعد سراً من أهم خياراتها إما ضم الكتل الاستيطانية الكبرى الخيار الأول، أما الخيار الثانى الأخطر فهو ضم الضفة الغربية لإسرائيل).

ـ هذا هو التاريخ بماضيه وحاضره ومستقبله الذى يتكشف لنا اليوم وأمامنا فى سياق التاريخ الذى أعاد صياغته الصهاينة الأول، قلة من مفكرين يهود واتتهم الشجاعة ولم تعوزهم الأمانة العلمية والتاريخية أن يتصدوا لعملية كبرى تزوير التاريخ العربى والإسلامى كله فى فلسطين، أذكر منهم جماعة (المؤرخين الجدد) مثل (آفى شلايم) المؤرخ البريطانى (اليهودى العراقى الأصل) فى تفسيره النقدى لوعد بلفور فى كتابه الأشر (الجدار الحديدى) عام ٢٠٠١ (وإبلان بابيه) فى تحليله لأحداث الغزو الاسرائيلى لغزة عام ٢٠٠٩ وإدانته (لناتانياهو) ووصفه بأنه من أنصار(عقيدة الصراع الدائم) وهى العقيدة التى تحول دون أى تسوية سلمية للصراع العربى الإسرائيلى، ومن هؤلاء المؤرخين الجدد أيضاً والذين تصدوا لتصحيح الأباطيل وتفنيد الضلالات التاريخية قدامى الصهاينة منذ القرنين التاسع عشر والعشرين، (بينى موريس) وقراءته النقدية لوثائق التاريخ الإسرائيلى ذاتها وهم يتفقون جميعاً على (مرحلة الصهيونية) التى تعيشها إسرائيل آن لها أن تنتهى وأنه حان الوقت لزمن (ما بعد الصهيونية) بعد أن قامت اسرائيل على (مبدأ القوة) والصراع الدائم) واتخدت من (الاستيطان) التى تطبقه حكومة ناتانياهو اليوم عقيدة وفلسفة واستراتيجية للحلول محل الشعب الفلسطينى أرضاً وسكاناً، أى جغرافياً وديموغرافياً تحقيقاً لرؤية صهيونية توارثية راسخة الجذور فى الفكر الصهيونى القديم الذى يجرى فى أرض فلسطين اليوم كلها (أرض الميعاد) ويرى الشرق الأوسط باضطراباته وانهياراته وضياع كياناته الوطنية، ودوله الراسخة التى تحولت إلى فاشلة يرى فيها المجال الحيوى الجديد الذى يتأهب لأنماط جديدية من السلام الإسرائيلى القائم على شرعية القوة لا قوة الشرعية) التى كان قد أمرها النظام الدولى ما بعد الحرب العالمية الثانية من خلال ميثاق الأمم المتحدة وهياكلها ومؤسساتها.

ـ على أنه بالتوازى، أو التكامل تاريخياً مع هذا الماضى المثقل بالوعود المطبقة على مر العقود فى القرن الماضى، وتكاد تصل إلى درجة النضوج والذروة فى مطلع القرن الحادى والعشرين، بالتكامل مع هذه المقدمات التاريخية والأيديولوجية للفكر الصهيونى الذى ينكر على الفلسطينيين أرضهم وهويتهم بسياسات يطبقها حرفياً حرب الليكود بزعامة رئيسه ناتانياهو، الذى قد لا نغالى كثيراً اذا قلنا عليه وصف (جابوقدتسكى الجديد).

ـ واليوم نقرأ ونحلل طروحات أهم وأشهر مراكز الدراسات الاستراتيجية عن الأمن القومى الإسرائيلى الذى انعقد مؤتمره السنوى فى الأسبوع الثالث من هذا الشهر يناير ٢٠١٧( إذ نسمع فيه أصداء الفكر الصهيونى العارى المجرد يطرحه الجنرال المتقاعد (آموسى يادلعين) مدير معهد الدراسات الاستراتيجية للأمن القومى الاسرائيلى الذى يؤكد أن الأمن فى إسرائيل لم يصل إلى هذه الدرجة من الكمال كما هو فى الوقت الحاضر فهى أقوى عسكرياً فى المنطقة وهى لا تواجه أى خطر وإن كان الخطر الايرانى يفوق ظفر الإرهاب بل إن الاتفاق النووى مع إيران يمثل على المدى القصير تطوراً إيجابياً بالنسبة لإسرائيل إذ جعلها أكثر أمناً، بينما لا تمتلك الدولة الإسلامية الإرهابية صواريخ بالستية وهى لا تعدو أن تكون شبيهة بأى تنظيم دولى آخر، كما أن إسرائيل حققت الاستقرار كما حققت الردع حتى ضد الجماعات الإرهابية مثل حزب الله، أما سوريا فقد كانت من قبل خطراً يهدد إسرائيل وعلى إسرائيل أن تستمر حليفاً للولايات المتحدة أى لم تعد اليوم مثلما كانت بالأمس.

ـ وبالنسبة للصراع العربى الإسرائيلى، يقول الجنرال (أموس يادلين) إنه لابد من تجاوز الخيار القائل (إما كل شيء أو لا شيء) وعلى إسرائيل استراتيجياً أن تستمر فى الاستعداد لمواجهات قادة مع (حماس ومع حزب الله).

تابع التفاصيل في العدد الجديد في المصور الموجود حالياً في الأسواق .