د. محمد عفيفى
فى عام ١٩٩٩ خصصت مجلة «الاجتهاد» اللبنانية، المعنية بإعادة قراءة الفكر الإسلامى من جديد، ومحاولة تقديم اجتهادات عصرية، عدة أعداد من المجلة لمناقشة «الدولة العثمانية» ذلك اللغز الغامض الكبير الذى يطرح على الساحة العربية والإسلامية دومًا فى لحظات الترقب وانتظار الجديد، إما من خلال البكاء على الأطلال والتحسر على الفردوس المفقود، أو من خلال التشفى فى الماضى البغيض «العثمانى» الذى يشترك مع الاستعمار، أو لعله هو نفسه استعمار تحت ستار الدين، يشترك فى زرع التخلف والجهل فى «الوطن العربى».
وفى تقديمه القصير لهذا العدد المخصص عن «المجال العربى فى السلطنة العثمانية» يلخص رضوان السيد بذكاء شديد الاتجاهات السابق الإشارة إليها قائلًا: «لقد بدا العثمانيون فى الكتابات القومية العربية علة العلل فى الانحطاط العربى، كما بدا فرسان الجهاد رمز قوة الإسلام ومجده فى كتابات الإسلاميين فى العقود الثلاثة الأخيرة»
محمد فريد، الدولة العلية «الجامعة الإسلامية»:
لكن هذه النظرة المثالية للدولة العثمانية «رمز قوة الإسلام ومجده. لم تكن فقط وليدة العقود الثلاثة الأخيرة، ولكنها كما قلنا تتردد فى لحظات الترقب وانتظار الجديد. إذ نجد هذه النظرة عند أحد كبار الزعماء الوطنيين فى مصر فى مطلع القرن العشرين، وهو محمد فريد، وخاصة مع بدايات الانهيار السريع للدولة العثمانية، ومشروع الخلاص الأخير «الجامعة الإسلامية» على يد السلطان عبد الحميد، وارتباط الحزب الوطنى فى مصر بالانتماء إلى الدولة العثمانية، فى محاولة لنزع الشرعية عن الاحتلال البريطانى فى مصر.
فى ظل هذه الظروف التاريخية يصدر محمد فريد كتابه الشهير «تاريخ الدولة العلية العثمانية». ومن البداية يلاحظ قوة التفسير الدينى للتاريخ الذى يرتاح إليه الإنسان فى فترات الانكسار:
«بالنسبة لنا معشر المسلمين تاريخ الأمة الإسلامية التفصيلى الذى يرينا كيف أشرق ذلك الدين القويم على قمم تلك الأرض المباركة أرض الحجاز، فأنار معظم القارتين القديمتين آسيا وإفريقيا، وجزءًا ما كان قليلًا من أوربا».
ويشير محمد فريد إلى الإهمال الذى وجهه المؤرخون العرب إلى تاريخ الدولة العثمانية، أو «فرع الخلافة التركية» مقارنةً باهتمامهم بتاريخ الدولة العربية الإسلامية «فرع الخلافة العربية» فيقول:
«تاريخ هذه الأمة الفاتحة الشريفة قد ينحصر على التوسع فى فرعين رئيسيين الخلافة العربية والخلافة التركية وقد طرق الفرع الأول كل مؤرخى الإسلام، وأما الفرع الثانى فكاد القلم العربى أن يكون منه أبعد الأقلام».
وهنا يشير محمد فريد إلى ظاهرة هامة فى أدبيات التاريخ العربى آنذاك، وهى قلة الكتابات عن تاريخ الدولة العثمانية. وفى الحقيقة يرجع ذلك فى مصر إلى وصول محمد على إلى الحكم ومشاكله العديدة مع الدولة العثمانية، ثم إرساء دعائم «ولاية وراثية» لأسرة محمد على فى مصر. من هنا كانت معظم الكتابات التاريخية تتحدث عن «محمد على الكبير» ودوره فى إرساء دعائم التمدن فى مصر الحديثة، واستخدام التاريخ فى إعطاء «مشروعية» لأسرة محمد علي. وبالتالى أصبح تاريخ مصر ينقسم إلى ما قبل محمد علي، وما بعد محمد علي.
يوضح فريد منذ البداية الهدف الأساسى لكتابه وهو إبراز الرسالة الإلهية للدولة العثمانية فى نجدة الأمة الإسلامة فيقول:
«لكن العناية الصمدانية تداركتهم بلم الشعث ورم الرث ورتق الفتق ورقع الخرق، فأضاءت الأفق الإسلامى بظهور النور العثمانى وأمدته بالنصر اللدنى والعون الربانى، فقامت الدولة العلية بحياطة هذا الدين، وحماية الشرقيين، ودعت إلى الخير، وأمرت بالمعروف ونهت عن المنكر، فكانت من المفلحين».
إن هذا المدخل الأسطورى الذى يقدم به فريد للدولة العثمانية لا يمت فى الحقيقة بصلة بنشأة الدولة العثمانية وتطورها الطبيعى التاريخى، ولكن يمت بصلة بالظروف التاريخية التى يكتب فريد فى إطارها تاريخه «تاريخ الدولة العلية». فالدولة العلية فى زمن فريد لم تعد فى الحقيقة «العلية» وإنما أصبحت «رجل أوربا المريض» الذى ينتظر الجميع موته، ولكن المشكلة الحقيقية بالنسبة لهم –دول أوربا – هى تقسيم تركة الدولة، أملاكها دون الإخلال بمبدأ توازن القوى، هذا المبدأ الذى ساد أوربا قبل الحرب العالمية الأولى، وأطال فى الحقيقة من عمر الدولة العثمانية.
كما ينبغى تذكر توالى سقوط الولايات العثمانية سواء الأوربية منها، أو حتى العربية فى أيدى الدول الأوربية، وأهمها سقوط الجزائر وتونس، ثم السقوط الكبير لمصر فى عامى ١٨٨٢، ثم ولاية طرابلس، ليبيا، فى عام ١٩١١ فى أيدى الإيطاليين، وغيره، والذى كان البداية الطبيعية لسقوط الدولة نفسها بعد ذلك فى أعقاب الحرب العالمية الأولى.
ولا ننسى صراع القوميات داخل الدولة العثمانية ذاتها، ولا سيما الصراع الشهير بين القومية العربية والقومية التركية، والذى سيساعد فى نهاية الأمر فى إحداث القطيعة التاريخية بين العرب والترك بعد ذلك. من هنا يتحدث فريد ليس بلسان المصرى أو حتى العربى، وإنما يركز على الانتماء الإسلامى أو الشرقى، بحكم طبيعة توجه الحزب الوطنى آنذاك، يرى فريد أن:
«أى شرقى مسلمًا كان أو غير مسلم لا تهزه النخوة القومية والحمية الملية إلى المحافظة على بقائها – الدولة العثمانية – سعيًا فى بقاء نفسه وتأييدها بكل ما فى وسعه». كما يرى فريد أن كتابه هذا موجه إلى الشرقى المسلم لاستلهام التاريخ فكما نجحت الدولة العثمانية فى بدايتها ستنجح الآن لا محالة يقول فريد:
«ونالت – الدولة العثمانية – من العزة والتوفيق ما يجدر بكل شرقى أن يتذكره الآن لتستفزه عوامل الغيرة ودواعى النشاط إلى بذل نفسه ونفيسه فى سبيل تقويتها وتعزيز رايتها... لما كان لها ولا يزال لها من الحسنات الحسان على كافة بنى الإنسان من غير نظر إلى الأجناس والمذاهب والأديان».
كما يعمل فريد على الإقلال من أهمية الصراعات القومية والطائفية فى داخل الدولة العثمانية، هذه الصراعات التى كانت كالسوس تنخر فى داخل بنيان الدولة وساعدت على السقوط المريع للدولة من الداخل، فضلًا عن الكثير من النزاعات الحدودية والعرقية حتى بعد سقوطها يقول فريد:
«وذلك بخلاف الدولة العلية فإن جميع الناس تعيش فيها بغاية الحرية والسلام، وكل المطرودين من الدول الأوربية يفدون إلى أراضيها فيرتعون بحبوحة الراحة والهناء، آمنين على أنفسهم وأعراضهم».