هناك لحظات وأيام فارقة فى تاريخ مصر، يكون فيها الخطر المهدد لهذه الأمة العريقة أقرب من السلامة، دائمًا ما تختزن هذه الأمة فى تلك الأيام الفارقة رجالا من نوع خاص قادرين على صد الخطر وانتزاع السلامة بقوة من يد التهديد المحيط بها، قد لا يربط بين سيرة رجلين من رجالات مصر العظام رابطًا زمنيًا فأحدهما كان يولد والآخر يرحل، أحدهما حمى آثار مصر وتاريخها من لصوص الحضارة والتاريخ، والآخر حمى كل مصر من الفوضى والفتن، كلا الرجلين راهن على وعى وقدرة هذا الشعب ولم يخذلهما أبدا هذا الشعب.
منذ أيام تلقيت خبر وفاة المشير محمد حسين طنطاوى هذا القائد الفارق بفعله فى التاريخ المصرى الحديث وقت معرفتى بالخبر كان فى يدى كتاب "صفوة العصر فى تاريخ رجال مصر" وهو كتاب ألفه المؤرخ زكى فهمي فى بداية الثلاثينيات من القرن الماضى وهو يحوى بين صفحاته تراجم لعدد كبير من رجال الدولة المصرية فى هذا العصر، وكانت الصفحات التى وصلت إليها تحوى سيرة مرقص باشا حنا وزير الأشغال فى حكومة سعد باشا زغلول أول حكومة وطنية مصرية تشكلت عقب ثورة 1919.
الحقيقة لم أكن ملمًا بصاحب هذه السيرة مرقص باشا حنا ولكن عندما قرأت تفاصيل المعركة التى خاضها ضد الاحتلال البريطانى وهوارد كارتر الذى اكتشف مقبرة توت عنخ آمون وكان فى الخلفية خبر رحيل المشير طنطاوى وجدت هذا الرابط الممتد بين رجال مصر الذين يقررون فى اللحظات الفارقة تحدى كل الصعاب غير عابئين بأى قوة مهما كان حجمها سواء إمبراطورية بريطانية لا تغرب عنها الشمس أو إمبراطورية أمريكية رأت وضع مخططات لخدمة مصالحها على حساب شعوب منطقتنا، خاض كل من الرجلين معركته من أجل مصر وباسم مصر.
كانت معركة الباشا من أجل حماية تاريخ مصر من النهب على يد المستعمر ومعركة المشير كانت أحداثها تدور على أرض مصر كلها متصديًا لمستعمر يقف خلف الستار ويحرك أعوانه من قوى الظلام ممثلة فى الفاشيست الإخوان لصناعة الفوضى وإراقة الدماء من أجل التسلل إلى حكم هذا الوطن الغالى، لم يكن الرجلان يبحثان عن شهرة أو مجد بل كانا يبحثان عن تحقيق مصلحة هذه الأمة، ترك الباشا منصبه بعد أن أدى مهمته والمشير ظل صامتًا لم يتفاخر أو يتباهى بما قدمه وبحجم عواصف الخطر التى واجهها لأجل حماية مستقبل هذا الوطن وتركا للأجيال القادمة من أبناء أمتهما مثل وطريقًا يقودهم إلى النور بعد أن كان ظلام النهب والفوضى يتربص بمقدرات هذا الوطن.
عندما تولى مرقص باشا حنا منصبه فى وزارة الأشغال كان العالم كله مشغولا بالاكتشاف الأثرى الأعظم فى تاريخ البشرية وهو اكتشاف مقبرة الملك الشاب توت عنخ آمون، كان المسئول عن الاكتشاف هوارد كارتر هذا المغامر ومن ورائه اللورد كارنافون صاحب امتياز التنقيب عن الآثار المصرية فى وادى الملوك ومن وراء الاثنين أساطيل الإمبراطورية البريطانية التى تحمى الاثنين، طالع مرقص باشا تقريرًا مقدمًا إليه من مصلحة الآثار التى تتبع وزارته به معلومات خطيرة، أن المغامر هوارد كارتر يدعو المئات من صفوة المجتمع الأوروبى لزيارة المقبرة ويهديهم من قطعها الأثرية هدايا كأنها ملكًا له ويمنع اقتراب أى مصرى من المقبرة، لقد أصبحت أعظم اكتشافات الحضارة المصرية وتاريخها فى هذه اللحظة مستباحة للأجنبى وممنوعة من أبنائها.
لم يكن التقرير المعروض أمام الباشا هو فقط ما يوحى بالخطر بل تصريحات هذا المغامر كارتر الذى يتباهى بأن القطع الأثرية بالمقبرة ستشحن إلى بلاده وأوروبا لأن مكانها المتاحف الأوروبية عقب فتح التابوت الحجرى للملك الشاب والتأكد من وجود موميائه فى التابوت ودعا المغامر صحافة بلاده والعالم لمشاهدة لحظة فتح التابوت الحجرى وكانت مومياء الملك الشاب بداخلها وحانت اللحظة التى أرادها المغامر ليستولى على كافة آثار المقبرة ولم يكتف بهذا بل أغلق المقبرة بالسلاسل ومنع أى شخص من الاقتراب منها لحين أن يتصرف فى الآثار داخلها كما يحلو له.
هذه القوة التى امتلكها المغامر كارتر حركتها قوة بريطانيا العظمى التى ظن أنها تمتلك كل شيء فى مصر سواء فوق الأرض أو ما يتم اكتشافه تحتها.
كان أمام مرقص باشا حنا أمرين إما أن يأثر السلامة متجنبًا غضب الإمبراطورية البريطانية مضحيًا بتاريخ بلاده أو يتصدى لهؤلاء المستعمرين مضحيًا بسلامته من أجل الحفاظ على حضارة أمته من النهب، فوجئ المستعمر قبل أبناء البلد بقرار الباشا فأصدر وزير الأشغال الوطني قرارًا بتكليف رجال الشرطة المصرية بتحطيم السلاسل التى وضعها هذا المغامر المتغطرس على أبواب المقبرة وأن تتولى الشرطة المصرية ورجال مصلحة الآثار حماية المقبرة ومنع أي أجنبى من الاقتراب منها حتى لو أدى الأمر للاشتباك بالقوة لحماية المقبرة.
أعطت مصرية ووطنية الوزير قوة تحدت غطرسة المستعمر ولم يكتف بقرار تأميم المقبرة بل أعطى للمغامر هوارد كارتر مهلة 48 ساعة بالعودة للعمل كموظف خاضع لمصلحة الآثار المصرية وفق شروط امتياز التنقيب الموقع بين الحكومة المصرية واللورد كارنافون أو سيلغى هذا الامتياز، لم يصدق المغامر وحكومته فى لندن ما يفعله الوزير لتمر الـ 48 ساعة وهم فى حالة من الذهول فألغى مرقص حنا باشا الامتياز باسم الدولة المصرية ويصدر أوامره لمصلحة الآثار ورجال الشرطة بتولى أمر المقبرة بالكامل ويعين موظفين من مصلحة الآثار هما محمد شعبان وأنطون بولس ليكونا مسئولين عن المقبرة تحت حماية قوات الشرطة.
انفجرت لندن غضبًا من وطنية الوزير وشنت صحافتها وسياسيها هجومًا حادًا على مصر وبدأت تلوح باستخدام القوة، لأنها اعتبرت أن ما حدث إهانة لها، أيد سعد باشا زغلول كل ما فعله وزير الأشغال مرقص باشا حنا وقرر أنه لا تراجع عن فرض السيادة المصرية على المقبرة ولن تخرج قطعة آثار واحدة منها.
تحولت تهديدات لندن إلى أفعال وبدأت تحركاتها من أجل إعادة المقبرة إلى سلطة المغامر كارتر.. هنا تحرك الشعب الذى فهم بوعى أنها معركة كبرى من أجل تاريخه وهويته فخرج الآلاف من المصريين فى مظاهرات لتأييد موقف سعد باشا ووزير الأشغال مرقص باشا حنا واستشعرت لندن الخطر متذكرة أجواء ثورة 1919، فطلبت الوصول إلى حل وسط، لكن الحكومة المصرية أصرت على موقفها بل اشترطت أن يقدم هوارد كارتر اعتذارًا مكتوبًا للوزير مرقص باشا حنا بعد تطاوله عليه فى تصريحات له، وأن يتم التنازل نهائيًا عن امتياز التنقيب لصالح مصلحة الآثار المصرية.
رضخ هوارد كارتر وحكومته أمام الغضبة المصرية فكتب الاعتذار وتنازل ورثة اللورد كارنافون عن الامتياز، هذه المعركة الكبرى فى تاريخ الوطنية المصرية سجلتها صفحات التاريخ وحفظتها لكي تتطلع عليها أجيال قادمة، أما الرجال المخلصون الذين تصدوا للمستعمر وحافظوا على حضارة مصر فلم يطلبوا مجدًا أو شكرًا فقد أدوا واجبهم ورحلوا فى سلام.
مرت عقود على معركة السيادة المصرية على جزء فريد من حضارتها ليأتي شتاء يناير 2011 وهو محمل بالخطر وبين معركة السيادة على الآثار وشتاء الخطر كانت هناك عشرات من المعارك الكبرى التى خاضتها الوطنية المصرية للحفاظ على عزة هذه الأمة.
فى هذا الشتاء قبل عشر سنوات كانت الأمة المصرية تستدعى رجلا آخر لتحمله مسئولية مواجهة الخطر الذى يتربص بها ولم يكن كأى خطر بل خطرًا يهدد وجودها ذاته وليس جزءًا من وجودها كما فى معركة الآثار، وكان المشير محمد حسين طنطاوى مستعدًا لتلبية النداء بعد أن خاض عشرات المعارك الفارقة والبطولية تحت رايات القوات المسلحة من أجل نصرة هذه الأمة.
استشعر القائد البطل فى هذه الأيام الفارقة أن عواصف الخطر التى تهدد أمته ليست طبيعية بل تحركها إمبراطورية أخرى مستخدمة قوى الظلام الفاشية من أجل تحطيم إرادة الأمة المصريةـ وأدرك بوعيه المصرى أنها معركة وجود لم يشهدها التاريخ المصرى من قبل، كانت حكمة الأمة المصرية التى استوعبها الرجل وخبرة المعارك التى خاضها المشير هى البوصلة التى تعطيه قدرة اتخاذ القرار الصحيح، تحمل المشير طنطاوى فى معركة الوجود والمصير ما لم يتحمله بشر، استفزته القوى الخارجية وعملاؤها الظلاميون فى الداخل ولكنه ظل محتفظًا بثبات القائد الخبير فى المعركة وأدار معركة المصير بنفس الثبات ورغم هذه العواصف ظل القائد محتفظًا بابتسامته وهدوئه ليعطى رجاله فى القوات المسلحة الثقة الكاملة ولجماهير هذا الشعب الأمل فى المستقبل.
عندما نستعيد جسامة الوقائع التى مرت على هذا البلد الطيب وقت تولى المشير رئاسة المجلس العسكرى وكيف أدار سفينة الوطن بقدرة فذة مجتازًا عواصف الخطر نتساءل من أين أتت جذور هذه القدرة؟ الإجابة تأتى جلية وواضحة أنها خبرة حرب أكتوبر المجيدة والتى علمت المشير كيفية انتزاع الانتصار من حصار التحديات والمصاعب وإيمان عميق يمتد لسبعة آلاف عام بصلابة هذه الأمة ووعى هذا الشعب.
يعطى دائمًا الإيمان بصلابة الأمة المصرية ووعى شعبها ثمار النصر للقائد ففى الـ 30 من يونيو تحركت جموع الأمة المصرية لتطيح بالظلام والظلاميين وبالمخططات الشريرة للإمبراطورية وتستعيد دولتها المختطفة.
فى لحظات النصر لم يتباه ويزهو البطل محمد حسين طنطاوى بفعله وإيمانه، لكنه فقط احتفظ بابتسامته الهادئة والقدرة الهائلة على التواضع أمام الأمة المصرية التى استدعته فى أيامها الفارقة والمصيرية.
لقد عاصرت معركة المشير طنطاوى حتى تحقق الانتصار وقرأت عن معركة مرقص باشا بين المعاصرة والقراءة يتولد رابط وإدراك، الرابط ممتد ويغزله المواطن المصرى الطيب فعندما يكون فى موضع المسئولية وتستدعيه أمته فى لحظة الخطر تنتهى الحسابات والمواءمات وتصبح عزة الأمة وأمنها همه الأول.
أما الإدراك فهو عميق بعمق حضارة وحكمة الأمة المصرية بأن فى مصر رجال قادرون على تحدى أعتى القوى من أجل سلامة ومستقبل هذا الوطن.