الجمعة 19 ابريل 2024

عصر ما بعد الفوضى.. صناعة الغضب والعنف

مقالات29-9-2021 | 16:18

يمكن أن نقول إن الغضب أصبح صناعة ربما لا يكون لها علاقة بالحقيقة أو بالواقع، إنه أمر أشبه بالوهم وصناعة الأمراض النفسية، فلو وضعنا شخصا طبيعيا تحت تأثير عدد من العوامل النفسية أو الضغوط المصطنعة فإن النتيجة أن هذا الشخص سيضطرب ويصبح مريضا بالفعل، ويمكن لعدد من العوامل الفاعلة في تشكيل وعي الإنسان أن تخلق لديه حالة معينة منفصلة عن فكرة الحقيقة، وبالمثل يمكن أن نجعل شخصا معينا يشعر بالرضا الشديد على حاله مهما كان فاشلا، بل يمكن أن تصور له أدوات صياغة الوعي نفسه بطلا، وتجعله يشعر بهذا بكل قوة كأنه بطل حقيقي برغم فشله. 
هذه الحالة من صناعة الوعي الزائف أو الوهمي يتم استغلالها من مدة طويلة في صناعة الغضب، وصناعة الغضب لعبة كبيرة تحدث من أوقات بعيدة قبل 2010، في الإعلام وفي كافة الخطابات كجزء من صناعة الفوضى وتحريك الرأي العام وعمليات التثوير المنظم. والخطير في لعبة صناع الغضب أنها تقدم التهدم والضعف دون أن مناقشة عميقة لأسبابه، بل إن وسائل وأدوات صناعة الغضب دائما ما تميل إلى تجنب الأسباب الحقيقة وتتجنب مناقشة الأفكار العميقة، على سبيل التمثيل بعض الأفلام عن البطالة أو عن الشباب الذي لا يعمل في المهنة التي تناسب مؤهله أو تناسب الشهادة التي حصل عليها، هذه الفكرة كانت ومازالت يتم تقديمها في السينما وبعض الأعمال الدرامية بمستواها السطحي مثل الأعراض المَرَضِيَّة، أي مثل ارتفاع درجة حرارة مريض، فلا يتم البحث عن ميكروب أو فايروس مسبب ولا يتم الانشغال بأي من المسببات الحقيقية، بل يتم الاكتفاء فيها بما يعانيه هؤلاء الشباب من تخبط وضياع الأمل والحلم وضياع المستقبل والتردي في المعيشة أو قسوتها وحسب. 
قضية مثل هذه يتم توظيفها ليس لمناقشة مشاكلنا الاجتماعية كما قد يبدو من ظاهر هذه الأعمال السينمائية أو الدرامية، فلا يكون هناك تطرق لفكرة كثافة الفصول الدراسية ومشاكل التعليم أو أخطاء التأهيل فيه وانفصاله عن سوق العمل وغيرها من الأشياء التي تتم دراستها ومكتوب فيها أبحاث كثيرة بين الاجتماعي والتربوي، ولكن يحدث اقتصار فيها على مسألة صناعة الغضب وإظهار أن هناك تقصيرا من الدولة والأنظمة السياسية وأنها السبب المباشر وراء ضياع هؤلاء الشباب، طبعا سياسات الدولة لها دور في الأمر لا يمكن لأحد أن ينكر هذا، والدولة هي المعنية بالأساس بوضع السياسة التعليمية ولكن هناك عوامل كثيرة حاكمة لهذه السياسات ومسألة إصلاح التعليم ليس مجرد قرار سياسي، بيد الحكومة بل الحقيقي أنه أمر يحتاج إلى شراكة مجتمعية كبيرة لأنه مرتبط بالثقافة الإنجابية لدينا وبفكرة القراءة وعلاقتنا بالتراث، حتى فكرة الأبوية والوصاية التي تمارسها الأسرة على أبنائهم لها علاقة بمشاكل التعليم، وهكذا فإن ما يجب أن نراه في هذا الموضوع يتجاوز كثيرا حاله الشاب الذي انهار وضاع، أين البحث وراء الظواهر والانشغال بالأسئلة الجوهرية، وليس صحيحا أن السينما تركز على الظاهر فقط، بل السينما مثلها مثل الرواية أو أي عمل يقوم على السرد والحكاية يمكن أن تركز على ما هو جوهري بالدرجة الأولى، والأمر كله مرتبط باختيارات الكاتب والمخرج وصناع العمل، فإذا أرادوا اختلاق حالة من الغضب وحسب كان لهم هذا، وإذا أرادوا إثارة الأسئلة المهمة والعميقة كان ذلك ممكنا. والحقيقة أن هناك عددا من الأفلام السينمائية والأعمال الدرامية لم يكن لها من هدف غير زرع الغضب وصناعته لدى الجماهير بشكل غير منطقي وغير عقلاني، عبر لعب على العاطفة فقط، وعبر بث قيم مغلوطة وحالات نفسية مصطنعة. 
على سبيل المثال يصور فيلم ساعة ونص حالة عامة من الانكسار والتهدم والانهيار، أعرف جيدا ملابسات إنتاجه وأعرف أنه يتأسس على واقعة حادث قطار الصعيد الحادث الأكثر بشاعة في تاريخ حوادث سكك حديد مصر. المشكلة أن الفيلم لم يتطرق لأي من أسباب الفساد بشكل عميق، بل حاول أن يجسد من وجهة نظر صناعه حالا من التهدم الشامل في المجتمع المصري، وحالة من الميلودرامية الرخيصة وهو جيد من حيث الصناعة وهذا هو الأخطر، فهو من ناحية التكنيك والصنعة السينمائية بل عديد النجوم أصحاب الأداء التمثيلي البارع ولكنه من حيث الجوهر والحكاية لا يمت لمناقشة الواقع بصلة، بل لم يكن يهدف إلا إلى استنفار الغضب لدى الجماهير وحثها على الثورة والعنف، كان الفيلم يريد أن يشعر الجميع بأن حياتهم ضاعت تماما في ظل الدولة المصرية، لا يريد نبرة هادئة حتى في مناقشة الفساد أو الأخطاء، بل يريد أن يقول إنه لا أمل ولا رجاء من وراء هذه الدولة وأنه الأسلم البحث عن شيء جديد تماما، ذلك لأن حالة الضياع شاملة لكل الطبقات والفئات ولأغلبية الشعب كما صور الفيلم، فهذا القطار ضم الجميع، المتعلم الذي لا يجد وظيفة ويبيع رسائل حب في عصر الكراهية وكأنها مسكنات، والانهيار الأخلاقي والاقتصادي والجوع الجنسي الذي يصنع التحرش والانحلال عن الفتيات في الوقت نفسه والفقر وعدم القدرة والاغتراب وكل مشاكل مصر تقريبا في طبق واحد أو وعاء واحد، بما يجعل الجميع يصلون إلى رغبة شديدة في القيء والرغبة في الخلاص، وفي الغالب لن يجدوا إلا نظام الإخوان المسلمين وديمقراطية الجماعات الدينية الرجعية وهي كانت البديل الصاعد وقت صناعة الفيلم وإذاعته على الجمهور في 2012 وبعد ثورة 25 يناير بأشهر قليلة. 
ليس هذا الفيلم فقط الذي يحتاج إلى إعادة قراءة ويدفع في اتجاه محاولة البحث في فكرة صناعة الغضب والعنف عند الجماهير وكيف يتم توظيف الخطابات المختلفة وأهمها السينما والدراما بما لهما من نفوذ عند الجماهير وفاعلية كبيرا وتأثير واسع. فهناك عدد من الأعمال الدرامية التي كانت منصبة على حياة بعض نجوم الفن والتمثيل والدراما مثل مسلسل إسماعيل ياسين لا يريد تحميل انهيار إسماعيل ياسين إلا لثورة يوليو ونظام عبد الناصر ويقول بكل صراحة أنه السبب في موته وإذلاله والسطو على كل أمواله، والحقيقة أن هذا تم أيضا مع بعض المنشورات على الفيس بوك عن محمد فوزي وغيره من الرموز، وهكذا في أساليب كثيرة لصناعة الغضب وصناعة الرأي واختلاق وعي مزيف عند جماهير كثيرة، والحقيقة أن هذا يتطلب مركزا في دراسات تحليل الخطاب بكل أنواعه ومتابعة منصات تشكيل الرأي والوعي لقياس هذه التحولات في أدوات صناعة الرأي، لأن كثيرا من هذه الخطابات والمنصات يتم استغلالها دون وعي أو بتعمية ونحن لا نشعر، ويجب أن يكون هناك معرفة تامة بها بل تصل إلى حد السيطرة عليها من الناحية العلمية وبعيدا عن أساليب الصناعة التقليدية، بل في إطار من حركة الرأي والنقد والتحليل وتقديم قراءات في هذه الخطابات، ويجب تدريب أعداد من النقاد على تقديم قراءات نقدية تحليلية لبعض الخطابات وأثرها واحتمالات التلقي والدور الذي تؤديه في تشكيل رأي أو موقف سواء متغير أو ثابت، وهو أمر مهم ويحتاج إلى بحث اجتماعي وثقافي وديني والعمل على سيكولوجية الجماهير والتنقيب في تنوعاتها ومنطلقاتها.
فيلم ساعة ونص