لا أحب ولا أميل للكتابة فى المناسبات العامة.. ولكن هناك شخصيات سياسية بارزة غيّرت مجرى التاريخ لا أملك ترف تجاهل الكتابة عنهم، لاسيما أنهم كانوا ومازالوا حتى الآن ملء الأسماع والأبصار.
الزعيم الخالد جمال عبد الناصر واحد من هؤلاء الزعماء الكبار الذين دخلوا أبواب التاريخ كزعيم مُلهم لكل الشعوب العربية والإفريقية والآسيوية واللاتينية.. على حد سواء.
الثلاثاء الماضى كان ذكرى مرور 51 عاماً على رحيل عبد الناصر فى 28 سبتمبر 1970.
حاضر يا حبيب..ها أقولكم حالاً ذكرياتى اللى مش ممكن أنساهها أبدأ حول ما جرى يوم ما مات عبد الناصر حبيب الملايين.
بصراحة.. كنت قد جهزت نفسى لكتابة مقال آخر غير هذا الذى تقرأه الآن.. لكن أعمل إيه مع حبيبى "محمد حبيب" مدير تحرير هذه البوابة الفتية، اللى قالى ظهر يوم الثلاثاء فى التليفون كلنا مستعدين وعاوزين نقرأ كنت فين يا ريس لما الزعيم الخالد مات.. أنا وسامى الجزار ومحمد إبراهيم (نائبا رئيس تحرير البوابة) بس اللى سمعنا منك من 3 سنوات فى مكتبك شهادتك على تفاصيل التفاصيل فى اللى جرى فى هذا اليوم الحزين.. كنت فين.. وإيه اللى ما زالت ذاكرتك تحتفظ به عن لحظة موت عبد الناصر.. ياريت دلوقتى القراء هما كمان يعرفوا منك كنت فين وإيه اللى عمله المصريين لما صدمهم نبأ الرحيل العظيم!
يومها.. 28 سبتمبر 1970.. ساعة المغربية كنت واقف فى الطابور قصاد دكان عم عبد العزيز بتاع العيش اللى أمى رحمها الله ادتنى بريزة ورق أشترى بها 20 رغيف عيش بلدى (الرغيف بتعريفة يعنى 5 مليمات) كل شوية عبد العزيز -اللى كنا بنقول عليه مجنون- يبيع قفص عيش ويخرج من الدكان وينظم الناس الواقفين فى طابورين واحد للرجالة والآخر للستات اللى كان بيحب يرغى معاهم..!
بصينا لقينا "عرفة الأسمرانى" الجوول كيبر المعروف فى كل مساكن زينهم واللى جنبها.. عمال يخبط دماغه فى حيطة البلوك وبيعيط وبيصرخ: الريس مات.. الريس مات.. الريس مات.!.
فجأة.. عبد العزيز المجنون خرج من الدكان وهو يشاور ناحية عرفة: هو بيصوّت كده ليه.. هو بيعيط على إيه.. هو بيعمل كده ليه؟!..
طبعأ.. كلنا سبنا الطابور الستات والرجالة وعبد العزيز كمان.. وعدينا الشارع نشوف عرفة ونسمع منه الحكاية..عرفة يومها كلمة واحدة اللى كان بيقولها: عبد الناصر مش ممكن يموت!
لقيت نفسى بأجرى ورا كل الناس.. رايحين فين مش عارفين.. نزلنا مزلقان زينهم وعدينا المشرحة الشهيرة.. يمين إلى شارع زين العابدين وعلى طول بقينا فى ميدان السيدة زينب.. كل الترمايات خط 20 وكل الخطوط خدتنا شيلة بيلة لباب الشعرية.. مئات الآف اتجمعوا هناك لوحدهم بدون أوامر ولا تكليف وراحوا ميدان العباسية مشي.. ومنه إلى منشية البكرى مشي أيضأ حيث بيت عبد الناصر اللى مات.
كل الناس اللى لقيتهم قصاد بيت الزعيم كانوا لابسين زيي.. اللى بالجلابية.. واللى بالبيجامة.. واللى لابس لبس خروج.
كان عمرى ساعتها 16 سنة.. كنت بالبيجامة ولابس شبشب زنوبة.. ولما سمعت الخبر الحزين من "عرفة الأسمرانى" حطيت جاكتة البيجامة جووه البنطلون وإيدى اليمين كل شوية فى جيب البيجامة بتتطمن أن البريزة الورق ما زالت فى الحفظ والصون.. ما زالت العشرة صاغ فى جيبي!
لا أعرف على وجه التحديد أعداد الناس اللى كنت واحد منهم واقفين قصاد بيت الريس.. كانوا عشرات الآلاف ممكن.. فوق المليون جايز.. الأكيد الأكيد أن جنازة عبد الناصر اللى خرجت من مبنى مجلس قيادة الثورة بالجزيرة الخميس أول أكتوبر كانت أكبر جنازة فى العالم.. ده مش كلامنا.. ده كلام رؤساء وملوك وجرائد دول كان عبد الناصر بالنسبة لهم هو البعبع الذى حاولوا وفشلوا عدة مرات إزاحته من طريقهم.. طريق استعباد الشعوب ونهب ثرواتهم.
بعد الفجر.. لقيت معظم اللى كانوا واقفين معايا قصاد بيت الزعيم نازلين ميدان التحرير.. ليه؟!.. محدش عارف ولا حد حاول يعرف.. بس اللى فاكره ساعتها أنى لقيت عسكرى حرس جمهورى بيقول لزميله بصوت خفيض: الأوامر أن دول هايروحوا ميدان التحرير.. مش هيفضلوا متجمعين كده قصاد بيت الريس.
الساعة 6 صباحاً مشينا من منشية البكرى إلى شارع رمسيس حتى وصلنا ميدان التحرير.. عشرات الآلاف من المصريين الحزانى.. فجأة مات رئيسهم وملهمهم بدرى بدرى.. دون أن يبلغ الـ 53 عامًا.
فى ميدان التحرير وقفنا أمام فندق الهيلتون.. أحد النزلاء الخواجات كان قاعد بيتفرج علينا من بلكونة غرفته بالدور التاسع.. ماسك كاميرته وعمال يصور فينا.. هو واقف فوق مع مراته واحنا قاعدين تحت.. لحظتها صاح بعضنا وراح يشاور عليهم فى غضب ويصيح.. سابوا البلكونة ودخلوا غرفتهم ولم يظهروا بعد ذلك!
خرجت من البيت الساعة 6 مساء يوم ما مات الزعيم ولم أعد إلى البيت إلا نفس الساعة تانى يوم.. أبويا وأمى رحمهما الله لما شافونى راحوا يعيطوا على عياطي.. العين الحمرا لأبويا اللى كنت با ترعب منها كانت حمرا.. لكن من العياط على موت الزعيم!
أمى الله يرحمها اللى كان كل قرايبنا بيتبسطوا جدا من قفشاتها ودمها الخفيف سألتنى بصوت واطى حتى لا يسمعها أبويا: فين البريزة يا واد.. هاتها؟!
عدى اليوم اللى مات فيه الزعيم وتانى يوم -الثلاثاء- تقرر أن تكون جنازة الزعيم الخالد ظهر يوم الخميس أول أكتوبر.. تلك الجنازة التى قالت موسوعة جينيس وقتها إن العالم لم يشهد جنازة بتلك الصورة فى التاريخ!
يوم الجنازة كنت فى التحرير.. بس لابس قميص وبنطلون.. مش بالبيجامة والشبشب.. شاركت ضمن ملايين المصريين فى تشييع جنازة الرئيس اللى رفض إلحاح والده وضغطه كى يتم استثناء أخيه عادل من 12 يوماً كانوا زيادة فى عمره حتى يلتحق بالكلية الحربية، ولما أبوه زعل وأقسم أنه لن يدخل بيته مرة أخرى احتضنه الرئيس، وهو العملاق الذى كان كل قادة العالم يهابونه ويحترمونه.. وراح يقبّل يد والده ورأسه ويطلب منه السماح!
كنت موجوداً فى جنازة الزعيم اللى لما بنته "منى" ما جابتش فى الثانوية العامة مجموع يدخلها الجامعة اضطر يدخلها الجامعة الأمريكية بالمصاريف، حيث كانت وقتها بتقبل اللى جايبين مجموع ضعيف.. ورفض محاولات بعض من كانوا حوله باستثنائها من شرط المجموع بحكم أنها ابنة رئيس الجمهورية.. وقال قولته الشهيرة: بنتى منى زيها زى كل اللى ما جابوش مجموع!