الأحد 24 نوفمبر 2024

مقالات

اسمي مصري.. وشغلتي نصرة بلادي

  • 7-10-2021 | 16:38
طباعة

كنت ضمن فريق الإذاعة المدرسية خلال المرحلتين الابتدائية والإعدادية قبيل سفرنا لبضعة سنوات، ذلك برغم أن مدرستي كانت محسوبة على أنها من المدارس الخاصة لغات، وهو الأمر الذي قد يوحي بأن وجود اللغة العربية لم يكن على المستوى الكفء المأمول، إلا أن أستاذي حامد الجوجري، موجه اللغة العربية ومسؤول البرامج التعليمية بالتليفزيون المصري آنذاك، كان متولياً أمري لتوسمه خيراً في شخصي البسيط، إلى الدرجة التي قام فيها بترشيح اسمي على سبيل التزكية ضمن بعض الطلبة من المرحلة الأكبر مني للقيام بزيارة إلى مستشفى المعادي خلال فترة الاحتفالات بنصر أكتوبر.

وهو الأمر الذي تحمست له بشكل يفوق حجمي الصغير كطفلة تتوق إلى رؤية ما وراء الحكايات والقصص التي كانت تسرد علينا من الأهل أو وسائل الإعلام، وجاء اليوم المحدد للزيارة وانطلقنا إلى مستشفى المعادي، وقام مستر حامد بتلقيننا بعض آداب الحوار التي وجب اتباعها خلال الزيارة المرتقبة لاثنين من مصابي حرب أكتوبر اللذين كان مقرراً لقائهما، حتى لا يتسبب أي سؤال أو استفسار بجرح مشاعرهما، وهما مصدر الفخر والعزة التي نلتجئ إليها ونتباهى بها.

ولم يعي عقلي وقتها (في التسعينيات) لماذا يظل مصابي الحرب حتى هذا الوقت بمستشفى يتلقون العلاج، حتى أن دخلنا حجرة المصاب الأول ووجدته نصف مشلول على كرسي متحرك يفتح ذراعيه لاحتضاني ويقول لي اسمك إيه يا سمرا يا حلوة، قلت له أنا بحبك قوي يا أنكل، وعلى ما أظن كانت المشاعر بداخلي تشير إلى الاحترام غير أنني لم يمكنني التلفظ بالتعبير الصحيح.

وذهبنا إلى الغرفة المجاورة له لنجد المصاب الآخر على كرسي آخر متحرك في الوضع الأصعب فقد كان مشلولاً كلياً إلى الدرجة التي أصابت أطرافه بالضمور الكامل، كان الموقف أكبر من عقلي وقلبي كطفلة، أتذكر أنني أردت البكاء بشدة، لكن كل الدموع تحجرت من فرط الأسئلة التي اجتاحت روحي! حتى أنني ظللت على صمتي طوال رحلة العودة للمدرسة، ولم أجرؤ على التعبير عن مشاعري المتألمة.

وتمر السنون والتفاصيل وتكبر الطفلة وتسافر وتعود والذكرى محفورة بالوجدان، وتمر بنا أصعب الظروف التي قد تطيح بالأوطان بلا رجعة، وهو ما كان مخططاً له على ما يبدو، إلا أنه وكعادة الأب الذي يتدخل دائماً في المواقف التي تتسم بالخطورة، تقف قواتنا المسلحة بالمرصاد في مواجهة كل الأعداء الذين تربصوا لنا وبنا لسنوات من الإعداد والتخطيط بعد نصر أكتوبر العظيم.

وتقوم قواتنا المسلحة بأول عرض عسكري ضخم عام 2015 لاستعراض قوتها العسكرية وطائراتها الرافال التي كان تم ضمها حديثاً إلى أسطولنا الجوي وقتها، والتزمت أنا وأهلي التلفاز لمتابعة الاحتفال الذي كان مهيباً إلى الدرجة التي كانت ترج أوصالي كلما مر سرب من الطائرات فوق منزلنا، ذلك لأنني أقطن بجانب الكلية الحربية ولم أتصور أن أستكمل المشاهدة أمام الشاشة، فصعدت إلى سطح المنزل الذي كنا نسكن به لتسجيل الواقع الحي بكاميرا تليفوني المحمول.

وإذ بي أفاجأ بالطائرات الضخمة التي لها وصف المهابة تمر من فوق منزلي وشارعي تاركة آثار لألوان العلم المصري، وأنا أردد من خلفها الله الله الله الله أكبر، وأمي من قبلي تحيا مصر تحيا مصر... في حين تولى والدي إبلاغنا باسم وطراز كل طائرة تمر فوقنا من واقع خبرته السابقة بالقوات المسلحة كضابط احتياط لعدة سنوات أثناء الحرب.

أقوم بسرد تلك التفاصيل لا على سبيل الاستعراض أو المبالغة بوقع المواقف، لكني أقوم بسرد وقائع وحقائق عايشتها وحملت ومازالت تحمل صفة الاستدامة بذاكرتي رغماً عن ضعفها، أقوم بسردها لأني على يقين أن الكثيرين مثلي قد يحملون معهم العديد من الذكريات والمواقف التي قد لا تواتيهم الفرصة لقصها علينا أو مشاركتها معنا، يقيني بأن المصريين يحملون جينات فريدة من نوعها تجعلهم يستدعونها لا إرادياً في المواقف المحورية والتي تجعل الكثير يتعجب لأمرهم ليُقِرّون في كل مرة بأن  "ملهمش كتالوج"، هذا اليقين أيضاً قد يكون هو الدافع وراء حرصي على تلك الكتابات من وقت لآخر على سبيل التوثيق والتدليل بالحُجة، أن مصر التي قد تمرض، لا تموت بفضل الوعد الرباني وبفضل قواتها المسلحة كأقدم مؤسسة نظامية في التاريخ.

كل عام ومصر الأبية العصية بخير وسلام وأمان بفضل رجالها الأشداء رمز الصلابة والتحدي.

ندعو لهم من منتصف القلب أن يحفظهم بحفظه، وأن يديم عليهم الأيادي البيضاء التي تبني والأخرى السمراء التي تحمل السلاح.

الاكثر قراءة