الخميس 25 ابريل 2024

من روائع الآثار المصرية في المتاحف العالمية (37)

مقالات17-10-2021 | 12:56

مجموعة ملاعق التجميل في متحف اللوفر في  باريس

قدّس المصري القديم الجمال، وبحث عنه في كل شيء، وحاول تقليده ومحاكاته، فاجتهد أن يصبغ كل ما يصنع من أشياء بصبغة الجمال، فكان أن غزا الجمال النقشَ، والنحت، والرسم، والزخرفة، والصياغة والصناعة .. حتى النجارة، فكان الجمال يملأ حياتهم، ويصاحب موتاهم إلى الحياة الأخرى بعد الممات.

 ولهذا نرى الجمال فيما خلفوه من آثارٍ، معمارية كانت أو دقيقة، في واجهة معبد، في شكل عمود حجري، في عيون تمثال مطعمة تنبض الحياة فيها، في صورة جدارية ألوانها زاهية، أو نقش حجري أنيق، صدرية رائعة التصميم، أو قوائم كرسي تأخذ شكل سيقان أسد، أو مسند رأس كأنه راحتا يد  تحملان الرأس في لطف وأمان، وغيرها وغيرها مما خلفه المصري القديم وينطق بالجمال شكلاً وتصميماً ولوناً. 

جانب من مجموعة الملاعق الخشبية، ذات المقابض المختلفة الشكل والتصميممن مقتنيات متحف اللوفر في باريس

 

ولأن المصري القديم كان ينشد الجمال روحياً وحسيّا، جوهراً ومظهرا، حاول أن يتجمل فاخترع ما يمكن أن يساعده على أن يبدو جميلاً، وصار التجمل مهماً للرجال وللنساء، فصنع المصري القديم من المواد ما يساعده على أن يبدو جميلاً، فكانت مساحيق التجميل، التي شاع استخدامها في مصر القديمة منذ عصور بالغة القدم، للأغرض الجمالية، والصحية، وأظهرت الاكتشافات والنقوش الموجودة على جدران المقابر والمعابد استعمال مستخلصات نباتية، ودهانات وأصباغ، وزيوت عطرية، فضلا عن وصفات لنعومة الشعر وحمايته. كما عثر المكتشفون في المقابر المصرية القديمة وأماكن الدفن على بعض أدوات التجميل ومستحضراته، مثل: أمشاط الشعر، والحلي، والمكاحل، والعطور ولوحات مستحضرات التجميل.

ولم يقتصر استخدام مستحضرات التجميل من الدهانات والزيوت العطرية والمستخلصات النباتية وغيرها لأغراض التجميل فحسب، بل تشير أغلب المصادر المكتوبة إلى استخدامها أيضا في أغراض الطقوس الدينية والصيدلة.

وعثر العلماء داخل كثير من المقابر على مختلف أدوات الزينة والتجميل، والحلي، والمكاحل، والمراود والأمشاط، والمرايا، وأحمر الشفاه، كما عرفت المرأة المصرية طلاء الأظافر والقدمين لاستكمال زينتها وإبراز مفاتنها. وتشهد أدوات الزينة المحفوظة في متاحف العالم على اهتمام المرأة المصرية بالحفاظ على أدوات زينتها، فصُنعت صنادق لحفظ مستحضرات التجميل، زُخرفت بأشكال مختلفة كحيوانات وطيور البيئة المصرية أو الآلهة، لاسيما الإلهة "حتحور"، ربة الجمال والحب عند المصريين القدماء، وأنواع النباتات كزهرة اللوتس ونبات والبردي.

ومن أهم ما عثر عليه من أدوات التجميل في مصر القديمة، صندوق من الخشب زين السطح الخارجى له بشكل لعبة الداما الملونة وبرعم اللوتس، الذي يرمز إلى إعادة الميلاد عثر عليه في مقبرة "خا" وزوجنه "مريت" (الأسرة الـ 18 حوالي 1400 ق.م.)، مقسَّم إلى خمس حجرات مملؤة بمجموعة من الأواني مصنوعة من الفاينس، والألبستر والزجاج، لها أغطية، وذات أشكال مختلفة، خصصت لحفظ الكحل، والدهان، والمراهم وغيرها من مساحيق التجميل (صورة )، إضافة إلى عدد من أمشاط الشعر الخشبية.

واستخدم المصري القديم للعين الكحل الأسود.والطلاء الأخضر، وصنع الكحل الأسود من مسحوق الجالينا (كبريتيد الرصاص) وهو خام رمادي غامق وتبين أنه يجلب معه فوائد صحية قوية على شكل وقاية من الأمراض وأشعة الشمس، بينما الطلاء الأخصر فكان من خام الملاكيت (كربونات النحاسيك الخضراء).

تم استخدام لوحات لطحن مساحيق التجميل، التي عادة ما كانت تُصنع من مواد معدنية،  مستطيلة أو ذات شكل مستدير، تحتوي على تجويف لطحن مستحضرات التجميل. تطورت هذه لاحقًا إلى ألواح على شكل سمكة. ربما اختاروا شكل السمكة لأن السمكة كانت رمزًا للبعث والحياة الجديدة. كانت اللوحات على شكل سمكة تزين عادة بالأحجار الكريمة للملوك. تطورت هذه اللوحات إلى أواني على شكل قرد لحمل الكحل الذي يحمل معاني رمزية عند قدماء المصريين.

وفي وقت مبكر، ربما قبل الألف الأول قبل الميلاد، استخدم المصري القديم العديد من الأدوات والحاويات المختلفة لمستحضرات التجميل، منها الملاعق، التي استخدمت لأغراض مختلفة، تتجاوز استخدامها كأدوات للمائدة أو في تناول الطعام، إلى استخدامها للأغراض الطقسية ومراسم العلاج الطبي مثل تحضير الأدوية ومواد التحنيط، وخلط الأعشاب والزيوت، إضافة إلى استخدامها لأغراض تجميلية كمكاييل وموازين لتحضير وخلط الكحل، والحناء، وخلط ووتجهيز مساحيق التجميل بنسب دقيقة من الدهون والزيوت العطرية، كما أن بعض الملاعق كانت تستخدم كأدوات طقسية رمزية. ونادراً ما يمكن التعرف على استخدامها إلا في سياق كشفها الأثري. وهي غائبة تقريبًا عن الصور الموجودة على جدران المقابر الخاصة، كما أنها هشة للغاية ويصعب صنعها وربما لم تكن مخصصة للاستخدام اليومي.

كانت الملاعق تصنع من الأخشاب، وقد تصنع من العاج والصوان أو من النحاس والبرونز والمعادن النفيسة في عصور لاحقة، واعتنى المصري القديم بتزيينها، وصبغها بالصبغة الجمالية، وخاصة في دوائر البلاط في الدولة الحديثة، فكانت تأخذ أشكالًا وتصميمات متعددة لها دلالات ومعان، مستوحاة من الحياة، ومن الأساطير المصرية القديمة.

ملعقة مستحضرات تجميل ذات مقبض يأخذ شكل امرأة شابة عارية، كأنها تسبح، تدفع أمامها، حاوية بغطاء على شكل بطة أو أوزة، من الخشب، بينما رأس الطائر من العاج، والأبنوس، متحف اللوفر باريس

 

وهناك الكثير والكثير من نماذج الملاعق، الرائعة في تشكيلها، وجمال تصميمها، سواء في مقبضها أو وعائها، وما تحمله من دلالات فلسفية وجمالية عن حياة المصريين القدماء، تقتنيها العديد من المتاحف، مجموعة المتحف المصري بالقاهرة، ومتحف بتري في لندن، متحف أشموليان، في أكسفورد، متحف المتربوليتان في نيويورك، ولعل أشهرها المجموعة الموجودة في القسم المصري بمتحف اللوفر في باريس، التي تتصف بأنها أكثرها جمالا واكتمال، ففي خزانة واحدة، وخلف زجاجها توجد مجموعة تضم نحو مائة نموذج من الملاعق الصغيرة الحجم ومُزينة بشكل جميل، تتميز بتصميمات مقابض متنوعة وجميلة، منها ما هو على شكل خادماً يحمل جرة كبيرة، أو كيسَ غلال، وأخرى على شكل سمكة، أو على هيئة حيوان، أو على هيئة فتاة تسبح تمسك طائرًا مائيًا أو نباتًا مستنقعيًا أو خرطوشًا، أو فتاة ترقص أو تعزف، ومن المقابض ما هو على شكل باقات الزهور،  والخدم الذين يحملون المزهريات وغيرها من الأشكال الكثيرة.

من هذه النماذج الرائعة لمجموعة الملاعق في متحف اللوفر في باريس، ملعقة ذات مقبض يأخذ شكل إمرأة شابة عارية في وضع مستقيم تماماً كما لو كانت تسبح، ساقاها الطويلتان ممدودتان خلفها، بينما تعلو رأسها منتصبة، بشعرها المستعار، كما لو كانت تخرج من الماء، ويعطي شكلها الرشيق الانطباع بأنها تنزلق بسهولة في الماء، ويبدو أن المخلوق المجنح يجرها أو تمسك به بكلتا يديها، ويمثل الوعاء، كأنه يسبح أمامها، ويُعرف أحيانًا على أنه بطة، وأحيانًا أوزة. يتم تجويف جسم الحيوان كمستقبل للكحل، فعند اكتشافها، كانت لا تزال تحتوي على آثار للكحل والعطور التي كانت مخزنة في وعائها، .بينما الأجنحة مفصلية لتشكيل غطاء من جزأين يفتح بالضغط على زر صغير في نهاية كل جناح. الرأس مصنوع من العاج بثلاث حلقات من خشب الأبنوس في قاعدة العنق ذات لون أسود، وهو نتيجة لعملية ترميم حديثة، لكنها إضافة معقولة يمكن رؤيتها في ملاعق أخرى من هذا النوع. الأبعاد =29.30 سم طولاً، 5.50 سم عرضاً، 7.5سم عمقاً، يعود تاريخها إلى عهد الدولة الحديثة، الأسرة الـ 18، ما بين 1391 قبل الميلاد - 1353 ق.م. من المرجح أن النحات قد قام بنحت رأس البطة، أو الأوزة، وبدنها، والفتاة، كل على حده، وثبَّت الغطاء الي يمثل جناحي البطة في شكل مسطح بالمغرفة عن طريق كوايل خشبية صغيرة.

ملعقة مستحضرات تجميل مصنوعة من الخشب، ذات مقبض منحوت على شكل جسد فتاة عارية ذات شعر قصير تسبح، تحمل بكلتا يديها وعاء عميق مستطيل من أعلى مربع من أسفل يمثل حاوية الملعقة، متحف اللوفر في باريس

 

وهناك نموذج آخر لملعقة مصنوعة من خشب الخروب من القرن السادس قبل الميلاد، ذات مقبض منحوت على شكل جسد فتاة رشيقة عارية ذات شعر قصير، وكأنها تسبح، تحمل بكلتا يديها وعاء عميق مستطيل من أعلى مربع من أسفل يمثل حاوية الملعقة، ربما نحتها الفنان من قطعة واحدة من الخشب، وربما نحت جسد الفتاة، والوعاء، كل على حدة، ووصلهما بالوصلات الخشبية الدقيقة التي لا ترى من خلال الصور، والشكل العام يعكس ما فيه من جمال الفكرة، والتصميم والنحت.

Dr.Randa
Dr.Radwa