حاوره: رضوان آدم
لم يكن يظنّ أنني سأُجري معه حوارًا عن صاحبه الشاعر الكبير سيد حجاب. أحضر لنا صورًا مهمة لحجاب. رافقه طيلة نصف قرن. أربكته عندما قلت له: احك لنا عن سيد حجاب؟. المصور الكبير المتواضع عيد خليل، رئيس شعبة المصورين الإعلاميين، واحد من الذين عرفوا الراحل سيد حجاب عن قرب. لا يجيد «خليل» الحديث عن أحباءه. كاد يعتذر عن الحديث. قال لي: من أنا لأحكي عن سيد حجاب؟. أنا مجرّد صديق لكنّي لست شاعرًا ولا كاتبًا كبيرًا. أنا أحبّ سيد حجاب لوجه المحبة. ضغطتُ عليه ففوض أمرَه لله، وتيقن أنني ورطته. لم يجهّز نفسه لحوار. ترك سليقته وذاكرته تتحركان براحتيهما. سكت قليلا قبل أن أتكلم معه وشاور باله وقرر أن يفضفض معنا عن رفيق الأيام.
ترتسم على وجه عيد خليل ضحكة طفل. يسكت قليلا. ينظر في أرضية الغرفة في مجلّة المصوّر. لا أعرف إن كان يوشوّش ذاكرته أم أنه يبحث عن شيء لا أعرفه أنا. ينظر إلىّ وأنا أدخّن. يقول إن التدخين آذى صدر حجاب. “تعرف. كان مدخنا شرها. كان يغلق مكتبه على نفسه. الدخان والوحي يجتمعان فتخرج القصائد والغناوي”. يمنع دموعه. لم نبدأ حوارنا بعد. لو نزلت دموعه لن يكتمل حوارنا. عُدنا إلى نقطة البدء. متى قابلت الشاب سيد حجاب أول مرّة؟. عُدنا خمسين عامًا إلى الوراء. الآن يتذكر «خليل» ويضحك مجددًا. يرتدي «شورت» الصبي “أول مرة قابلت صاحبي سيد حجاب كان عمري ١١ عامًا. كان في أوائل ١٩٦٧. الصدفة الكبيرة عرّفتني بالصحفي الكبير الراحل يوسف الشريف. صاحب فضل كبير علىّ. كان يأتي إلينا في الجيزة كي يُصلّح سيارته. كان مدخلي إلى السياسة والفنانين والتصوير ومصر عبد الناصر. كان خالي يعرف «الشريف» واطمأن إلى أنني في أمان معه. ذهبت مع يوسف الشريف إلى منزل الراحل محمد عودة في الدقي. كانت هناك ندوة لا أتذكر عنوانها. لمحني سيد حجاب ابن الــ٢٢ عامًا وضحك. ما الذي جاء بهذا الصبي إلى ندوة فيها عودة والشريف وفيليب جلاب ومحمود المراغي وعبد العظيم مناف ومجدي حسنين (أحد الضباط الأحرار) وآخرين. قال لي حجاب: تعالي هنا يا صاحبي. تكلمت معه وكلمني. كان هادئًا ورصينًا وودودًا كما عرفته في قادم السنين. بعد الندوة شربنا شايًا وحكى لي عن حدوتة بيرم التونسي. لم أكن أعرف الشاعر الكبير. قال لي: (جئت له مخصوصًا من الإسكندرية. رحت له القهوة التي كان يجلس عليها. انتظرته كي أفرّجه على أشعاري. صُدمت عندما رأيت شخصًا عصبيًا يشخط وينطر ويتعارك مع دبّان وشّه ورُّحت ماشي). ضحكنا وبعدين روّحت ع البيت. بعد هذه القعدة قابلت سيد حجاب كثيرًا وصرنا أصدقاءً. تعرّفت من خلاله على صلاح جاهين وعمار الشريعي وفنانين كثر. كان يحكي لي عن مصر. كان يقول لي إن مصر أغلى الأوطان. نصحني أن أقرأ تاريخ بلدي. يا عيد يا صاحبي مصر أول غنيوة حلوة في التاريخ. كان نبيلا. علمني أن مصر معناها الحب. معناها المحبة والغُنا والشقا والضحكة والنيل والعصارى والأرض والشمس الفرحانة».
لم يُفارق عيد خليل صاحبه في الأيام الأخيرة، « مات يوم ٢٥ يناير. في ذكراها السادسة. أكيد المعنى واضح. ثورة يناير بشر بها سيد حجاب في شعره. كنت معه في إحدى الندوات. صوّرته بكاميرتي. الناس كانت متحمسة جدا لحجاب وهو يُلقي قصيدته (قبل الطوفان الجاي). جاي الطوفان والجاي بعده مهول. ح يقول ويعمل حاجة فوق القول. وقوالته فعل وكلكم مفعول. به. مش لأجله. بس مش حاسين؟ جاي ينصف المعقول من المنقول. وينصر المظلوم على المسئول. ويهزم السيف زي دم الحُسين. بالوصل بين العلّة والمعلول”.
يبكي «خليل» الذي يحفظ أشعار حجاب. مات على إيدينا. كنّا معه في المستشفى. صرخت ابنته ريم وصرخت أنا. لم أبك على أبي وبكيتُ صاحبي. لم أفارقه في أيامه الأخيرة. كنت أزوره أنا والدكتورة كريمة الحفناوي وزين العابدين فؤاد وأحمد بهاء شعبان. لم تفارقه الابتسامه حتّى من فوق سريره. يضحك المصوّر الكبير. يحاول تذكّر الأشعار التي كان يغنيها مع محبيه في طُّرقة المستشفى. فقد الشاعر الكبير صوته قبل وفاته بأسبوع. كان يسمعنا ونحن نُغني له ويختار ما يناسبه من الأغاني بابتسامة. كان قويًا ولا يهاب الموت. عندما كنت أسأله عن الحياة والموت في أيامه الأخيرة كان يقول لي (ربنا يسهل يا عيد) ويضحك. البركة في الشباب. مصر ولّادة. لم يكن يريد أن يراه أحد وهو عيّان. كان يُغلق هاتفه في الأشهر الأخيرة ويعتذر عن لقاءات كثيرة. كنا نلتقيه نحن. كان يزوره حفيده شمس وكان يفرح به. كان يزوره الموسيقار عمرو سليم وزوجته ويهوى الحديث معهما. كان حدّوتة حلوة في كل شيء”.
كثيرون لا يعرفون أن سيد حجاب كان صاحب ضربة البداية ضد نظام الإخوان. يقول عيد خليل «كان أول الداخلين إلى مبنى وزارة الثقافة. كان بصحبة الراحلة فتحية العسال ومحمد فاضل وسهير المرشدي ومحمد عبلة وسامح الصريطي وجلال الشرقاوي. كان يقود الهتافات على سلالم الوزارة فيردد المثقفون. كان يرى أن حكم الإخوان أدخل مصر في ظلام شديد. لم يترك وزارة الثقافة إلا كي يذهب إلى بيته. يغيّر هدومه ويرجع. فرح بثورة ٣٠ يونيو. كان سعيدًا جدًا. وتهب ريح قبليه..روحكوا تطق تهوي العروش كما عهن منفوش تزول نلقى الشعوب بتنول...وتاخد حقها المستحق ما اللي يستاهلوا الغرق والحرق من حرّموا ع الخلق قولة لأ بيصرخوا على طول بصوت مذلول ويبصوا بغباوة وعته وذهول لمصيرهم المجهول وربنا إسمه الحق وحسابكم معاه حيطول. كان زعلانا لأن شباب الثورة الحقيقيين خارج المعادلة أيام الإخوان. كان خائفًا على مصر. كان يقول إن مصر زعلانة من هذا المصير. نزل ميادين ٣٠ يونيو. هتف ضد المرشد والضّلمة. كان يرى أنهم لقمة واقفة في الزور. كان مكتئبًا في أيامهم ولم يكتب شعرًا. كان يدخن بشراهة أكثر. شارك في كتابة الدستور. كان عضوًا في لجنة الخمسين. كان يقول لنا إنه يريد أن يفعل شيئًا للفقراء.بعد ثورة ٣٠ يونيو كان زعلانًا أيضًا لأن من شاركوا في الثورة ضد الإخوان لم يحكموا. كان يرى في أيامه الأخيرة أن الدستور لا يُنفّذ. كان قلقانا على الثورة أكثر من أي وقت مضى. كان يقول لنا إن مصير الثورة ترجع لأصحابها».
يحكي عيد خليل- ويحتفظ بصور كثيرة لنفسه كي يسترجع الذكريات- أن سيد حجاب كان يستمع في أيامه الأخيرة لأغنية غادة رجب «آن الأوان بقى نبقى أحرار بجد» التي كتب كلماتها. كنت أشغّل له الأغنية مرّات كثيرة في اليوم على الشاشة البلازما الكبيرة في بيته. كان يردد مع غادة رجب وتلتمع عيناه، «آن الأوان بقي نبقي أحرار بجدّ. وناس ولاد ناس بجدّ. خلاص بقى.. خلصنا م اللي استبدّ. ونظرنا بقى أقوى وأشد وأحَدّ. شفنا بعين الحلم والعلم الزمان اللي جَدّ. وآن الأوان بقى نبقي أحرار بجدّ. آن الأوان من النهارده نبقى أحرار بجد. ماحد فينا يدوس على حق حد. ولا أى يد تحط فى طريقنا سد. ولا أى سد يحط لخيالنا حد. ولا أى حد يصد فكر استجد. ولا خلاف ولا شد. بين اللى بيصليها جمعة واللى صلالها حد”.
يفضفّض “خليل” عن صاحبه، ويدخل ويخرج من حكاية صغيرة إلى أخرى كبيرة. حكى عن حدّوتة تترات المسلسلات الكبيرة التي اقترنت بسيد حجاب. قال «خليل» إن حجاب أخبره أنه لا يهتم بشكل الرسالة التي يوصلها للبسطاء. المهم مضمون الرسالة يا عيد. الكلام البسيط بيوصل للناس ويمسّ مشاعرهم من خلال التليفزيون. الناس ما بتقراش كتير. معذورة. واخداها الحياة».
علاقة سيد حجاب المتينة بالموسيقار الراحل عمار الشريعي، يعرج عليها «خليل»: “كانت هناك كيمياء إنسانية وفنيّة كبيرة بينهما. عملا شغلا مهمًا علم في أجيال. كان يذهب حجاب إلى بيت الشريعي وكان يزورهما على الحجار من وقت لآخر. كان الشريعي وحجاب يجلسان في استوديو صغير داخل بيت الأول. حضرت أكثر من لقاء. شهدت نقاشاتهما الثرية وهما يمزجان الكلام بالألحان كالأسطوات الكبار. زعل سيد حجاب لمّا مات عمار الشريعي. شعر أن جزءًا من روحه مات. نفس حالة الحزن لازمته فترة ليست هينة عندما مات صديقه السيناريست الكبير أسامة أنور عكاشة وأتذكر أن حجاب كان رافضًا لعمل جزء السادس من ليالي الحلمية. كان يشعر أن الحالة خلصت . كان يقول إن الدراما المصرية بكت عندما مات أسامة أنور عكاشة. ياااه. أسامة يا عيد؟. الله يرحم روحك يا صديقي».
لا تفارق الصدمة وجه عيد خليل. يعتقد أن ذاكرته تخونه وهو يتحدث إلينا. يهرب المعنى حزنا على صاحب المعنى. تحتفظ ذاكرته وكاميرته بذكريات وحكاوي كثيرة عن سيد الشعر. يختم كلامه بدلالة يوم الوفاة. “سيد حجاب أحبّ يناير أكثر من أي شيء. لم يفقد أمله في الشعب المصري لحظة. كان يقول إن ذكرى يناير السادسة تقترب ويضحك. كان في ميدان التحرير معنا في ٢٠١١. كان يقول لي: أكتب الشعارات التي تحسّها الناس. لم يترك مناسبة شعبيّة إلا وشارك فيها. تعلمت منه الوعي العميق بالوطن. كان لا يتكلم كثيرًا. كان يُفسح المجال ويسمع الآخرين. فرح فرحًا شديدًا بثورة يناير. قال إن عمره لم يذهب هدرًا. شباب مصر عملوها يا عيد. انتصر الحق على الباطل. كان قلقًا على البلد من نظام مبارك الذي خربها. كان متيقنًا من أن الثورة ستندلع لا محالة. سيد حجاب أحد أنبياء يناير. مع السلامة يا صاحبي”.