الأحد 26 مايو 2024

سيد الشعر المسموع!

2-2-2017 | 23:20

بقلم : أحمد النجمى

بالغياب الجسدى لعمنا العظيم «سيد حجاب»، يكون خمسة من أهم شعراء العامية المصرية- العربية، قد غابوا جسديًا- وحسب- عن حياتنا، وتكون أيامنا الحالية هى أول عهده بالخلود المعنوى، ذلك الخلود الذى أتى من ثلاثة مصادر. القيمة الفنية، والقيمة الأدبية.. وقبلهما القيمة الوطنية والسياسية! تلك القيم الثلاث التى ينتمى بها اسم عم سيد حجاب إلى الخالدين..! واختارت الأقدار لسيد حجاب أن يموت فى «أحد أيام ميلاده»، ٢٥ يناير!

 

 

لقد حول سيد حجاب الذى أدعوه بـ «عم» ولهذا سببه.. فأنا لا أدعو بها إلا الأعزاء على القلوب.. الكبار فى المكانة، وكنت أناديه شبها- حول شعر العامية إى «فصحى جديدة»، ذلك أنه قام بتطعيمها- الفصحى- فى قصائده العامية بحرفية وفهم غير مسبوقين، وجاء ذلك فى زمن كانت الأغنية المصرية فيه تمر بانحدار مستمر فى الكلمة وفى خصوبة الخيال، وخلت الساحة منذ منتصف الثمانينيات- برحيل «صلاح جاهين» من الشعراء العظام فى العامية المصرية.

هذه قيمته الفنية تحققت على مرحلتين. الأولى.. إنشاء قصائد عامية جديدة فى المعنى وفى الشكل أيضًا، تأسس عليها جيل الستينيات «لا سيما تجربة مجلة جاليرى ٦٨ وما نشأ عنها من نزعات جديدة فى الأدب.. وسيد حجاب أحد ثلاثة أسسوها».

وهذه القصائد يمكن أن نلمسها واضحة مغناة بأصوات أجمل مطربى هذه المرحل، وهذه هى المرحلة الثانية.. التى انتقل فيها سيد حجاب فنيًا إلى «الشعر المسموع»، وتنافس فى محبة شعره الأميون والمثقفون، فكسر بهذا حاجزًا عتيقًا، يقوم على أن الشعر فن للمثقفين أو المتعلمين على الأقل كونه يحتاج إلى قراءة.. فنقله إلى الأسماع، ووظف قدرته الشعرية الهائلة فى صنع هذه «النقلة النوعية» فى الثمانينيات لاسيما عبر المسلسلات والأفلام، وربما لا يدرك الشباب الآن كيف كانت الثمانينيات مسرحًا لهبوط المعانى والألفاظ، فضلا عن انحدار فن الغناء المصرى فيها.. هنا اختار سيد حجاب أن يوجه مشروعه الفنى إلى الدراما، يمزج فيها العامية بكلمات من الفصحى، لا يمكن - إذا حاول شاعر محترف - أن يقوم باستبدالها بالعامية! وبفضل العبقرية اللحنية لعمار الشريعى صديق عمره، أصبحت هذه القصائد العامية «شعرًا مسموعًا»، يقوم «بإلقائه» المطرب أو المطربة التى تغنى هذه الكلمات..!

من هنا جاءت أغنيات الدراما المصرية فى أكثر من ٣٥ عاما - كتب كثيرًا من كلماتها سيد حجاب - عملًا فنيًا موازيًا للعمل الدرامى الذى تحتويه المقدمة والنهاية الغنائيتان، يكمل المعانى فى العمل، بل ربما يلخصها ويقربها إلى المشاهد/ المستمع أكثر من الحلقات الدرامية وأسرع وأوضح.. وقام حجاب بتضمين هذه المعانى لقيم وطنية وإنسانية مهمة، تصب جميعًا فى أفكار الحرية والعدل الاجتماعى والتقدم، تلك القيم أو الكليات التى آمن بها «عم سيد حجاب» إلى النخاع..! ولم يكن غريبًا والحال كذلك، أن يكون أكثر ما كتبه حجاب أو عم سيد من تترات للمسلسلات، موقعًا باسم الكاتب الكبير الراحل «أسامة أنور عكاشة» أو باسم المخرج الكبير الراحل «إسماعيل عبدالحافظ» أو المخرج الكبير «محمد فاضل»، وبالطبع ألحان العبقرى «عمار الشريعى»، فهذه كلها أسماء تنتمى إلى نفس الأفكار وتتوجه نفس التوجهات، فدخلت هذه الأغنيات العظيمة أو هذه الأشعار المسموعة سجلات الخلود الفنى ولاسيما فى باب الأغنية الوطنية، بمعناها الأشمل وبصورتها الأرقى البعيدة عن المباشرة.. أو جاءت فى بعض الحالات كأسئلة حائرة عن المصير الإنسانى والقضية الأساسية لنفوس حائرة كثيرة. العدل.. حتى إذا لم يكن اجتماعيا، والإبداع.. حتى إذا لم يكن فنيًا.. والحقيقة وإن كانت مرة !

سيد حجاب لم يكن يستسهل كتابة التترات الدرامية.. وامتطاء المسلسلات بكلمات جميلة «فقط» ككثير من شعراء الدراما. وكان ذلك ميسورًا، لكنه آثر أن يستكمل المعنى الأساسى لهذه الدراما ويوجزه ويوضحه للعامة قبل الخاصة، بمشروع شعرى امتزجت فيه العامية بالفصحى امتزاجًا شديد الجاذبية والخصوصية..!

يبدو هذا واضحًا فى تترات مسلسلات مثل «الأيام» و»أديب» وكلاهما كتب قصته عميد الأدب العربى د. طه حسين ولحنه عمار الشريعى، ويبدو هذا واضحًا بشدة فى مسلسلات مثل «النديم» و»العائلة».. وكلاهما ينشغل بالوطنية.. الأول عن سيرة المناضل والمثقف الوطنى الكبير عبدالله النديم فى القرن التاسع عشر، والثانى عن سيرة الإرهاب الدينى فى مصر من السبعينيات إلى التسعينيات وكلاهما أيضًا للشريعى، ثم مسلسلات العظيم أسامة أنور عكاشة من مطلع الثمانينيات إلى رحيل عكاشة قبل نحو ٧ سنوات. «وقال البحر، الشهد والدموع، ليالى الحلمية، عصفور النار، أرابيسك»، ونكتفى بذكر هذه الأسماء الخمسة.. فهى - وحدها - أهم ما كتبه عكاشة للدراما من الأساس!

ومع عكاشة أيضًا كتب سيد حجاب أغنية النهاية فى فيلم «كتيبة الإعدام» الذى أخرجه الراحل الكبير «عاطف الطيب» قبل ٢٧ سنة وهى أغنية «حبيبتى».. من أجمل الأغانى الوطنية التى تنفذ إلى الوجدان..! أما مع كاتبنا الكبير «محفوظ عبدالرحمن» فقد كتب حجاب كلمات المسلسل الملحمى الشهير «بوابة الحلوانى» بأجزائه الثلاثة..!

ولو كانت سيرة سيد حجاب تقتصر على هذه النقلة الفنية - مشروع «الشعر المسموع» - لكان هذا كافيًا للاحتفاء به ولبلوغه مكانته الهائلة.. لكن ما زاد من هذه المكانة اعتباران إضافيان إلى جانب الاعتبار الفنى، الأول هو قيمته الأدبية والثقافية.. والثانى قيمته الوطنية!

فأما قيمته الأدبية.. فإلى جانب إصداره دواوين شعر عامية تجعله مع خمسة أسماء آخرين - فؤاد حداد وبيرم التونسى وصلاح جاهين والأبنودى وأحمد فؤاد نجم هم أهم شعراء العامية فى الأدب المصرى والعربى إلى الآن - فهى آتية من تجاربه التى قدمت جيلين من المبدعين إلى القارئ.. جيل الستينيات «مجلة وجماعة جاليرى ٦٨» التى كانت متنفسًا أدبيًا للمبدعين المصريين حين صدورها.. وقدم فيها حجاب أسماء كثيرة فى الشعر الفصيح والعامى والقصة أيضًا، وتبنيه - بمعنى الكلمة - المبدعين جيل السبعينيات من الشعراء وكتاب القصة والرواية أيضًا.. ووقوفه إلى جوارهم وتقديمه لهم فى الساحة، مما جعله الأب الروحى الحقيقى لمبدعى جيل السبعينيات، وبرغم أن الظروف تغيرت فى الثمانينيات والتسعينيات ثم بعد عام ٢٠٠٠، لكن حجاب استمر فى تبنى المواهب الحقيقية كان ذلك جزءًا من دوره، وجزءا من تكوينه! وكان هذا سببًا فى شعور الحركة الثقافية بحالة «الفقد» الشديد بوفاة سيد حجاب قبل أسبوع..!

أما القيمة الوطنية لدى سيد حجاب.. أمير الشعر المسموع وآخر شعراء العامية العظام، فهى القيمة التى راهن عليها طوال الوقت ورفض التخلى عنها فى جميع العصور، وكانت السبب فى حبسه شهورًا من عام ١٩٦٧، ولم تفلح وساطة شاعرنا الكبير صلاح جاهين لدى شعراوى جمعة وزير الداخلية آنذاك فى الإفراج عنهم.. ولم تفرج عنهم «الداخلية» إلا بعد أن اشترط المثقف الفرنسى العظيم «سارتر” الإفراج عنه وعن رفاقه قبل أن تتم زيارته لمصر «وكان من رفافه فى محبسه.. عبد الرحمن الأنبودى» برغم هذا «الحبس” كان حجاب مصرًا على البقاء فى خندق اليسار المصرى، الوطنى، فى أفضل صورة وأفضل مضمون، كان هذا فى عصر السادات، وكان هذا فى عصر مبارك، وكان هذا فى عصر مرسى، وظل حجاب هكذا إلى آخر لحظة تنفس فيها، ولم يكن غريبًا أن يصبح عم سيد حجاب من رموز ثورة ٢٥ ثورة يناير المجيدة وميدانها العظيم «التحرير» ولاكان غريبًا أن يصبح عم سيد حجاب أحد أهم رموز ثورة ٣٠ يونيو المجيدة ضد «الجماعة الإرهابية» ولا كان غريبًا أن تأتى ديباجة «مقدمة» دستورنا الحالى - دستور ٢٠١٤ - آية من آيات الكتابة الوطنية فى أبهى صورة وأفضل وضمون وطنى وإنسانى، فقد كتبها سيد حجاب..!

هذا سيد الشعر المسموع سيد حجاب، بقيمته الوطنية وقيمته الفنية وقميته الوطنية وقيمته الأدبية.. لكن سؤالًا يظل قائمًا من دون جواب. هل هى مصادفة أن يرحل سيد حجاب فى يوم ٢٥ يناير؟ لقد ولد سيد حجاب عدة مرات، يحدث ذلك أحيانًا.. أن يولد المرء من رحم أمه ثم يولد بعد ذلك أكثر من مرة.. ولد حجاب ولادته الأولى، ثم ولادته كشاعر وفنان عظيم فى الستينيات، ثم ولادة ثالثة فى ٢٥ يناير ٢٠١١، ثم رابعة فى ٣٠ يونيو ٢٠١٣، ثم خامسة فى كتابة ديباجة الدستور.. ثم مات.. غاب جسده، وكان سيد حجاب يفصح ويبين ويشرح ويفسر كل شىء لمريديه وهم كثر.. لكنه لم يجب عن سؤال واحد.. لماذا مات فى يوم ٢٥ يناير بالذات؟! ربما لكى يظل شعره وإرثه العظيم يقول لنا: ٢٥ يناير خالدة!