تم ترجمة رواية "رينكونيته وكورتاديّو" للروائي الإسباني ميغيل دي ثربانتس صاحب الرواية الشهير "دون كيخوته" للعربية للمرة الأولى ضمن مشروع الروائي والمترجم العراقي المقيم بأسبانيا وأستاذ اللغة والأدب العربي في جامعة مدريد د.عبدالهادي سعدون، لترجمة أعمال ثربانتس الروائية والشعرية والمسرحية التي لم تترجم من قبل للعربية، وذلك بالتعاون مع دار الرافدين ودار تكوين.
الرواية جاء عنوانها الأساسي بالطبعة الإسبانية Rinconete y Cortadillo على اسمي هذين الفتيين"رينكونيته وكورتاديّو"، وقد رأى عدون أنه "ربما كان الأجدر إضافة مفردة "اللصّان" قبل اسميهما، لأن المضمون والرواية بأكملها تدور حول حياة هذين اللصّين "رينكونيته وكورتاديّو" وما يجري لهما من مقالب ومغامرات وأحاديث جديرة بالتسجيل ضمن عالم الصعلكة واللصوصية والسرقة والخداع على الرغم من صغر سنّيهما، وهما شخصان متورّطان بمعرفتهما، بل يتفنّنان بها ويشيران لها في كلّ موضع، ورغم يفاعتهما فهما خبيران يمكن أن تُطلق عليهما صفة "عيّارَين" أو "أزعرَين" من فئة الطبقات المنسحقة التي تعيش على الهامش في مجتمع مضطرب ومعقد.
وأضاف في تقديمه "في هذه الرواية التي تشبه مشهداً طويلاً مقتبساً من رواية صعلوكية أو من فصول "الدون كيخوته" نفسها أو روايات إسبانية أخرى مثل "لاثاريو دي تورميس" أو "قزمان الفاراشي"، إذ تبدأ بخيط حكائي مبسط عن حياتيهما القصيرتين والمليئتين بالأحداث والعِبر، وعن طرقهما في السرقة والتحايل، ثم يتطاول لينتهي مع عالم العصابات والمافيات البشرية لعوالم السرقة آنذاك، وتخلص ضمن البقعة نفسها دون إضافة كبيرة للأحداث سوى استمراريتها الحتمية في حياة شاقّة ومتضاربة، وهذه العوالم الأخيرة من عصابات منظمة يقودها رجل يدير شبكة أطفال وصبية سنراها تتكرر مراراً في قصص وروايات لاحقة على رواية ثربانتس المثالية هذه بشكل موسع، والمثال الأبرز رواية ديكنز "أوليفر تويست".
وأكد عدون أن "الرواية قطعة حيّة من عالم أصبح بعيداً ولكن آثاره يمكن أن نجدها حتى اليوم في بقاع مختلفة من عالمنا الواسع، سواء تعاطفنا مع صاحبيها أو وجّهنا لهما الانتقاد، فالحل لا يكمن في هذا وذاك، بقدر ما يكمن في الكلمة التصويرية والمثالية المدركة منها، بقي أن نذكر أن الرواية تشترك في مناخها وطبيعة توصيفاتها مع العديد من روايات البيكاريسك الصعلوكية الإسبانية أو الأوربية الأخرى المتميزة بصبغتها الواقعية والوصفية الحية واللغة الديناميكية المشوقة".
مقتطف من الرواية
عند نُزل المولينيّو بالقرب من حقول آلكاديا الشاسعة المعروفة على الطريق المتجهة من قشتالة حتى مقاطعة آندلوسيا، وفي يوم صيفي قائظ، التقى فتيان لا يتجاوزان من العمر الأربعة عشر أو الخمسة عشر عاماً، ومن المؤكّد أنهما لا يفوقان السابعة عشرة، حسِنا الطلعة، لكنّهما كانا في حالة شديدة من البؤس، متعبَين ومنهكَينِ، لم يكنّ أيّ منها يرتدي معطفاً، كما كان يغطيهما سروالانِ من الخيش، والجوارب كانت جلديهما نفسهما، لم تكن لديهما أحذية، بل كان في قدمَي أحدهما نعلان مهلهلان عافهما الدهر، وللآخر نعلان بلا قاعدتين كأنهما أغلال تقيّد حركته. كان أحدهما يرتدي قلنسوة صيّاد خضراء اللون، وكانت على رأس الآخر قبعة بلا شريط، غائرة من وسطها وعريضة الحواف على ظهره ومشدودة عند الصدر، حمل أحدهما خرجاً من جلد الماعز، يُفتح ويُغلق من طرف واحد، أما الآخر فقد جاء عاري الجذع لا يحمل خرجاً إلا نتوءاً ضخماً يحتلّ صدره، سيتضح بعد ذلك كونه شريطاً لطوق القميص المنشّى بالدهون ونسالة من خيوط متناثرة، فيه يخبّئ ورق لعب وقد اتخذ شكلاً بيضوياً لكثرة قصّ أطرافه، وهو لكي يتمّ اللعب بها إلى ما لا نهاية، فقد جعلها تتّخذ تلك الهيئة، كان الاثنان وقد سفعتهما أشعة الشمس، بأظافر طويلة وأصابع قذرة، كان أحدهما يحمل سيفاً مبتوراً، والآخر سكيناً بمقبض أصفر اللون مما يطلق عليه بالسكّين البقرية.
خرج الاثنان لقضاء القيلولة عند سقيفة أو عتبة أمام النُزل، فكان أن جلس أحدهما مقابل الآخر، توجّه الذي بدا أكبر سناً بالكلام للأصغر:
"من أية أرض قدم سيادتكم أيها السيد المبجّل، وإلى أين تمضون؟".
"أما عن بلدتي أيها السيد الفارس، فلا علم لي بها، ولا أعرف على وجه اليقين وجهتي"، أجاب.
"الحقّ"، قال الكبير، "لا أعتقد أن سيادتكم قد سقط من السماء، وهذا المكان ليس بمستقر طيب، ولذا لا بدّ من تركه والمضيّ قُدماً".
"وهو كذلك، لكنني أجبت بالحقيقة فيما ذكرت، لأن بلدتي ليست لي، فلي فيها أبٌ لا يعترف بي ابناً، وزوجة أبٍ أذاقتني المرّ، أما طريقي فهو طريق المغامرة، وهناك سأطرح متاعي في المكان الذي أجد فيه الوسيلة المناسبة لتدارك حياتي البائسة".
"وهل يتقن سيادتكم مهنة ما؟"، سأل الأكبر.
فأجابه الأصغر:
"لا أُجيد شيئاً غير العدو مثل أرنب بريّ والقفز مثل ظبي والقص بدقّة مثل مقصّ".
"كل هذا رائع ومفيد ونافع"، قال الأكبر، "لأنكم لن تتأخروا بالعثور على كاهن يمنحكم ما يجود به قربان كلّ القديسين، ولأنكم ستوفّرون له في الخميس المقدس قصاصات ورقية لتزيين المقام".
"ليست طبيعة قصّي بهذه الطريقة"، أجاب الأصغر، "بل لأن أبي بعناية السماء، خياط ورفاء جرامق، وقد علمني كيف أقص قطع الجلود، وهي كما تعلم كجوارب تغطي ظاهر الأحذية، وقد أوشكتُ أن أصل فيها إلى درجة الأُستاذية لولا سوء الحظ الذي انتزعني منها".
"هذا يحدث للطيبين عادة"، أجاب الكبير، "لهذا سمعت دائماً من يقول أن المهارات الحسنة هي الأكثر ضياعاً، لكن لا يزال أمام سعادتكم عمرٌ طويلٌ لتقويم مغامرتكم، بل وأرجو ألّا أحيد عن الصواب، وألّا يكذبني نظري في أني أرى أن مواهب مكتومة لديكم لم تفصحوا عنها بعد".
"نعم بالفعل"، أجاب الأصغر، "لكنني لا أستطيع قولها لأيّ أحد كما يرى سيادتكم".
ردّ عليه الأكبر على الفور:
"سأقول لسيادتكم إنني واحد من أكثر الفتية صوناً للأسرار ممّن يمكنكم العثور عليه، ولكي أُطمئن سيادتكم على ما تخبّئون في صدركم فتطمئن.
ردّ عليه الأكبر على الفور:
"سأقول لسيادتكم إنني واحد من أكثر الفتية صوناً للأسرار ممّن يمكنكم العثور عليه، ولكي أُطمئن سيادتكم على ما تخبّئون في صدركم فتطمئنون من ناحيتي، سأطلعكم على ما عندي أنا أولاً، لأنني أعتقد أن الحظ وغموضه قد جمعنا سوية ها هنا، ولطالما حصل هذا، سأكون مخلصاً لصداقتنا حتى آخر يوم في حياتنا، أنا سيادة المبجل، من بلدة فوينفريدا، بلدة معروفة وشهيرة بزوّارها الموقرين المتردّدين عليها، أما اسمي فهو بيدرو ديل رينكون، وأبي رجل صالح بمرتبة وزير في الحروب الصليبية المقدسة، أعني مروّج صكوك الغفران أو الشفاعات مما اعتاد العامة على تسميته، ذات يوم رافقتُه أثناء عمله، وتعلمتُ منه إلى درجة لا أحد قد وصلها ليكون منافساً لي في هذا المضمار، لكنني في يوم ما تولّعت بأموال صكوك الغفران أكثر من الصكوك نفسها، وقد حضنت كيساً منها وحملته معي حتى مدريد، وهناك حيث وجدت كلّ التسهيلات متوفرة، إذ في ظرف أيام كشفتُ عن أحشاء الكيس وتركتُه مليئاً بالطيّات أكثر ممّا في منديل سجين مصفّد اليدين، حينذاك تبعني ذلك المسؤول عن الأموال وكان أن قبضوا عليّ، عندها لم أجد من يصغي لي، وعندما رأى أولئك السادة صغر سنّي، رأفوا بي، ولم يعاقبوني سوى بربطي على عمود وجَلدي وتهجيري لأربعة أعوام بعيداً عن البلاط، صبرت على أمري وشددت كتفي تحملاً للإهانة والجلد، وبرغبة الهروب إلى المهجر، لم أنتبه للسرعة التي هممت بها- للبحث عن دابة امتطيها، حملت ما طالته يدي من أشيائي الشخصية وما اعتقدتُ بأهميته، ومنها ورق اللعب هذا "وعند هذه الكلمات كشف عن مخبئها في ياقة الرقبة" الذي أعيش منه في حياتي بين النُزل والحانات المتناثرة هنا في مدريد، مجرباً حظي بلعبة الواحد والعشرين، ومع أن سيادتكم ترى فيها أوراقاً مخربة مدقعة إلا أنها حسنة لمن يفهمها، ولو كنتَ خبيراً في هذا النوع من اللعب لعرفتَ أن من يمنحُه حظّ الحصول على الآس في الورقة الأولى ستخدمه كنقطة انطلاق، وبهذا يضمن الواحد والعشرين لأن لا آس آخر في أوراق اللعب وسيبقى المال في البيت، وعلاوة على هذا، تعلمت من طباخ أحد السفراء فنون اللعب المختلفة، وهي تلك التي يطلقون عليها كوينولاس وبارار وآندابوبا، وكما أن سعادتكم حاذق في فنون القصّ، تستطيع أن تتأكد من أنني أستاذ في مهنتي وبها استطعت النجاة من الموت جوعاً، لأنه حتى لو وصلت إلى خرابة، فهناك من يرغب باللعب ولو لبعض الوقت، لذا علينا أن نتحد ونجمع خبرتينا معاً. ولنرَ أيّ واحد من هذه العصافير نصطاد، أقصد من نجده متهيئاً ليلعب الواحد والعشرين معنا، بحيث لو شاء أحدهم أن يكون ثالثنا في اللعب، سيكون الأول بنفض ما لديه".