عُدتُ إلى بيتي ذات مساءٍ قريب ومعي كتاب الناقد السينمائي والكاتب الصحفي ماهر زُهدي عن نجيب الريحاني. وعنوانه: فيلسوف الضحك والبُكاء. ويعترف فى مقدمته أنه من الصعوبة التي قد تصل إلى حد المستحيل أن تكتُب عن عِملاق الكوميديا وفيلسوفها نجيب الريحاني باعتباره جزءاً من الماضي. لأنه لا يزال علامة فارقة والمحطة الأهم فى تاريخ الكوميديا المصرية والعربية.
ويُعد حداً فاصلاً لما كان قبله وما جاء بعده. فربما اختار طريقه فى الحياة ممثلاً، غير أنه لم يختر الشكل الذى يقدم به نفسه للجمهور. فقد سلك الطريق التقليدي لأغلب فناني عصره، ودخل من الباب الأشهر والأكثر اتساعاً والأكثر قبولاً عن جماهير زمانه. وهو باب التراجيديا.
واجتهد أن يكون أحد فناني هذا الفن الأصيل. غير أن الجماهير التى وقف أمامها رأت فيه ما لم يره فى نفسه. وجدت فيه ضالتها لرحلة البحث عن نموذج لكوميديان العصر. واختارته لهذه المهمة الشاقة بل الأكثر صعوبة. لأنها مع شعبٍ لا يتذوق النكتة فقط. بل ينتجها فى كل لحظة. وكانت عبقرية نجيب الريحاني أنها مكنته من اكتشاف ذلك. وكان من الشجاعة أن يخضع لاختيار الجمهور.
كوميديان كل العصور
نجيب الريحاني – يقول صاحب هذا الكتاب – لم يكتف أن يكون كوميديان عصره وعمل على أن يكون كوميديان العصور كلها. فعمل على تطوير الكوميديا المصرية لأكثر من ثلاثين عاماً. منذ أن بدأ عمله الاحترافي فى الفن فى عام 1908 ابتداءً من الفصل المضحك الأقرب من الكوميديا المرتجلة ثم الاستعراض والأوبريت، مروراً بالكوميديا الهزلية التى خصها بمغزى أخلاقي واجتماعي. حتى وصل إلى هذا الشكل الأكثر نضجاً من خلال كوميديا الموقف التي مازالت مُعتمدة حتى يومنا هذا.
لم يهدأ الريحاني طيلة ثلاثين عاماً فى رحلته مع الفن تقريباً حتى أصبحت الكوميديا على يده صيغة مصرية خالصة. كوميديا الريحاني تُعبر بصدق عن المجتمع. ساعده فى ذلك عدة عوامل رئيسية مهمة، قد يكون أهمها وجود تُربة خِصبة من بيئة مصرية تتعاطى النكتة بسخرية لاذعة، وتتعامل مع الكوميديا باعتبارها جزءاً أصيلاً من قوت يومها.
إضافة إلى ذلك – يقول المؤلف – هناك عاملان آخران أساسيان لا يقلان عن ذلك فى أهميتهما هما موهبته الفطرية كفنانٍ له حضور أو ما يُطلق عليه كاريزما خاصة. إضافة إلى حظٍ وافر من الثقافة والاطلاع لم ينقطع عنه حتى رحيله. وهو ما لم يتوفر لكثيرين من جيله وللأغلبية من الأجيال التالية.
تعليم الفنان
لقد قطع نجيب الريحاني فى مراحل التعليم وقتها شوطاً يُعد قصيراً بمقاييس عصرنا الحالي. ولكنه يُعد كبيراً نوعاً بمقاييس عصره. غير أنه لم يكتف بالوصول إلى مرحلة البكالوريا، وهى ما تعادل الثانوية العامة الآن. ثم حُرِمَ من استكمال تعليمه بسبب ظروف الأسرة الاقتصادية. ولكنه واصل الاطلاع حُراً والتهم الكُتب التهاماً فى كافة المجالات. وعمل على إتقان عدد من اللغات بينها الإنجليزية والفرنسية. علاوة على إتقانه الأصلي للغته العربية.
لدرجة أنه أصبح ملماً إلماماً رائعاً بالأدب المسرحى الفرنسي فى لغته الأصلية، حتى أصبح هذا الأدب له “كنز على بابا”. الذى راح يغترف وينهل منه ويقوم بهضمه. ثم يعيد إنتاجه فى ثوبه المصرى الخالص. حتى أصبح الريحاني نفسه يُشكِّل المصدر الرئيسي للأعمال الكوميدية المصرية سواء فى المسرح أو السينما، بعد أن أصبح تراثه الفني جزءاً أصيلاً من نسيج الذوق العام فى مصر. لأنه استمد عبقريته فى الأداء من إنسانيته كجزء من النسيج المصري، فاكتشفته الكوميديا المصرية ونصَّبته عميداً لها.
الهروب إلى الضحك
يكتُب ماهر زُهدي صاحب هذا الكتاب المهم أنه لا أحد يُنكر أن الكوميديا جزء مهم ومتأصل من تكوين الشعب العربي بشكلٍ عام. ومن تكوين الشعب المصرى على وجهٍ خاص. فقد اتخذ هذا الشعب من الكوميديا بل ومن السخرية اللاذعة حتى من نفسه فى كثيرٍ من الأحيان ملاذاً آمناً يلجأ إليه فى كل وقت. وتحديداً عندما تشتد الأمور وتُضيِّق عليه الحياة الخناق. يفر هارباً إلى الضحك.
وطوال حياته لم يرد أن يُغادر خشبة المسرح ليظل تصفيق الجمهور له مستمراً. فهو لم يعش مثل هذه اللحظة من قبل. وكم تمناها. خاصة أن جزءاً كبيراً من هذا النجاح يخصه وحده بشكلٍ مباشر.
تعالوا نتعرف على الريحاني
نجيب إلياس ريحانة الشهير باسم نجيب الريحانى “21 يناير 1889 – 8 يونيو 1949” هو ممثل فُكاهي مصرى، يُعد أحد أبرز رُواد المسرح والسينما في الوطن العربي عموماً ومصر خصوصاً، ومن أشهر الكوميديين فى تاريخ الفنون المرئية العربية.
ولد فى حي باب الشعرية بمدينة القاهرة فى زمن الخديوية، لأب عراقي كلداني من مدينة الموصل يُدعى “إلياس ريحانة” وكان يعمل بتجارة الخيل، فاستقر به الحال في القاهرة ليتزوج امرأة مصرية قبطية أنجب منها ثلاثة أبناء منهم نجيب. وتلقى الريحاني تعليمه فى مدرسة الفرير الفرنسية بالقاهرة، وفيها تجلَّت موهبته التمثيلية المُبكِّرة، فانضم إلى فريق التمثيل المدرسي، واشتهر بين مُعلميه بقدرته على إلقاء الشعر العربي، حيث كان من أشد المُعجبين بالمتنبي وأبي العلاء المعري.
كما أحب الأعمال الأدبية والمسرحية الفرنسية بعد إتمامه دراسته، عمل موظفاً بسيطاً فى شركة لإنتاج السُكر فى صعيد مصر، وكان لتجربته هذه أثرٌ على العديد من مسرحياته وأفلامه السينمائية لاحقاً، وعاش لفترة متنقلاً بين القاهرة والصعيد.
وفي أواخر العقد الثاني من القرن العشرين أسس مع صديق عُمره بديع خيري فرقة مسرحية عملت على نقل الكثير من المسرحيات الكوميدية الفرنسية إلى اللغة العربية، وعُرِضت على مختلف المسارح فى مصر وأرجاء واسعة من الوطن العربي، قبل أن يُحوَّل قسم منها إلى أفلامٍ سينمائية مع بداية الإنتاج السينمائي فى مصر.
تزوج الريحاني من امرأة لبنانية تُدعى بديعة مصابني تَعرَّف عليها أثناء أحد عروضه فى لبنان، واصطحبها معه إلى مصر، حيث افتتحت ملهى خاصاً بها اشتهر بكازينو بديعة، كما أسست فرقتها المسرحية الخاصة بها كذلك التي عُرفت باسم «فرقة بديعة مصابني» والتى اكتشفت العديد من المواهب التمثيلية فى مصر.
انفصل الريحاني عن بديعة مصابني فى وقت لاحق، ليتزوج بامرأة ألمانية هي “لوسي دى فرناى” وأنجب منها ابنته الوحيدة. ثم أصيب الريحاني في أواخر أيامه بمرض التيفوئيد الذى أثَّر سلباً على صحة رئتيه وقلبه. وفى يوم 8 يونيو 1849 توفي الريحاني فى المستشفى اليوناني بحي العباسية بالقاهرة، ولم يختتم تصوير آخر أفلامه، ألا وهو: غزل البنات، وكان له من العمر 60 سنة.
ترك نجيب الريحاني بصمة كبيرة على المسرح العربي والسينما العربية، حتَّي لُقِّب بزعيم المسرح الفكاهي فى مصر وسائر الوطن العربي. ويرجع إليه الفضل فى تطوير المسرح والفن الكوميدي فى مصر، وربطه بالواقع والحياة اليومية فى البلاد بعد أن كان قبل ذلك شديد التقليد للمسارح الأوروبية.
ويُعرف عنه قوله في خليط من اللهجة المصرية العامية واللغة العربية الفصحى: “عايزين مسرح مصري، مسرح ابن بلد، فيه ريحة “الطعمية” و”الملوخية” مش ريحة “البطاطس المسلوق” و”البفتيك”، مسرح نتكلم عليه اللغة التي يفهمها الفلاح والعامل ورجل الشارع، ونُقدِّم له ما يُحب أن يسمعه ويراه”.
وكان للريحاني وأسلوبه التمثيلي تأثيرٌ على العديد من الممثلين اللاحقين، منهم فؤاد المهندس الذى أقر بتأثير أسلوب الريحاني عليه وعلى منهجه التمثيلي، وقد أدى دور الريحاني عدة ممثلين فى عدة مسلسلات تليفزيونية تحدثت عن بدايات الفن المسرحى والسينما فى مصر والوطن العربي.