رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

«اللغة» قوام الهوية فلنتمسك بروابط الفكر والروح


26-1-2025 | 22:18

اللغة قوام الهوية فلنتمسك بروابط الفكر والروح

طباعة
بقلـم: د. جيهان زكى

الثانوية العامة أم البكالوريا؟..

 

إضافة التربية الدينية أم حذف الفلسفة؟..

 

كثير من التعليقات التى تتباين فيها الرؤى وتتضارب من خلالها وجهات النظر التى تتردد مؤخرا فى المجتمع المصرى حول مقترحات وزارة التعليم بشأن إعادة صياغة المناهج التعليمية على مدار سنوات النشأة وهى السنوات الأهم فى تكوين الإنسان المصرى.

 

حجر رشيد

 

أود فى هذا السياق أن أعبر بموضوعية عما يجيش فى صدرى بهذا الشأن الدقيق والمحورى المتعلق مباشرة ببناء الإنسان؛ حيث أرى أن المتغيرات التى تطول حاليا النظم الدراسية، سواء كانت فى مسميات شهادة تتويج سنوات التعليم أو فى حذف أو إضافة مادة إلى مجموع درجات الطالب ما زالت فى «الشكليات» إنما نقطة الارتكاز ـ فى رأيى ـ ستظل تكمن فى «المادة الخام» التى يجب على المدرسة أن تملأ بها وعاء الطالب وتغذى فكره وإبداعه وتنير بها قلبه وضميره قبل الخروج إلى المجتمع.

 

ونحن فى العقد الثالث من الألفية الثالثة، نقرأ كثيراً من الموضوعات التى تملأ صفحات كتب التاريخ والتى أرى أنها تستوجب إعادة النظر من قبل خبراء التربية والمتخصصين فى إطار رؤية الدولة لمستقبل أبنائها.

 

يحضرنى هنا، على سبيل المثال، ما تعلمناه عن اللغة المصرية القديمة (الهيروغليفية) والتى أرى أنه محمود أن تدرج مبادئها فى إطار تعليم التاريخ المصرى القديم فى المناهج التأسيسية، ولكن الأهم من إدراج حروف هذه اللغة ورموزها، علينا أن نوضح للطالب أن هذه اللغة ليست «ميتة» كما تعرفها المعاجم وإنما هى ما زالت تتنفس وما زالت كلماتها نفاذة عبر الزمان والمكان.

 

فهم يسمعونها فى أحاديثهم اليومية بل ويستخدمونها، فمن أشهر الكلمات المنبثقة من اللغة المصرية القديمة على سبيل المثال، كلمة «شنه ورنة» للشخص المعروف وكذلك كلمة «طنش» التى تعنى لم يستجب، و«ست» وتعنى امرأة، و«خم» وتعنى خدعة، وكلمة «ياما» وتعنى كثيرا، وكلمة «مقهور» ومعناها حزين، و«هوسة» و«دوشة» ومعناهما ضجيج وصوت عالٍ.

 

عزيزى القارئ..

 

لم يعد من الترف فى هذه الأجواء المغايرة وحروب الفكر أن نعتمد على محاكاة الغرب وقراءته للتاريخ، بل يجب علينا إعادة النظر فى الأمور والأحداث التاريخية بـ«عيون مصرية» و«روح وطنية» حيث إن الفكر لا يجابه إلا بالفكر!

 

ولذا فعلى القائمين على ملف التعليم فى مصر أن يأخذوا بأنامل الطلبة فى المدرسة كى يمسكوا بروابط الفكر والروح بين ماضى وطنهم وحاضره ومستقبله عبر جسر «التاريخ»؛ كى يعلو بهم إلى مستوى الحدث الدولى ويؤهلهم للدفاع عن وطنهم بعلم نافع وبفكر راسخ.

 

وهنا أعطى مثالا على تناول أحد الأسئلة التى تعتبر الأشهر فى امتحانات الصفوف الإعدادية خاصة فى مادة التاريخ الحديث، ولعله أيضا السؤال الأكثر تكرارا فى برامج المسابقات التليفزيونية فى مصر وخارج مصر لاختبار الثقافة العامة..

 

منْ الذى فك رموز اللغة المصرية القديمة؟

 

الإجابة الصحيحة تحمل بالتأكيد اسم جان فرنسوا شامبليون والذى يطفو على سطح المعارف المتراكمة من أيام الدراسة وأيضا من واقع الحقائق المسلم بها..

 

ولكن هل يدرك المجيب على هذا السؤال أن هناك أكثر من ألف عام تفصل بين آخر نقش لحروف اللغة المصرية القديمة (الهيروغليفية) والذى يحمله معبد إيزيس فى جزيرة فيلة عام 394 م وبادرة اكتشاف شامبليون لقراءة هذه الحروف 1882 م عام؟

 

والسؤال هنا موصول للقارئ..

 

أين ذهبت أحداث الزمان على مدار هذه الألفية؟

 

هل من المنطقى أن تأتى قراءة اللغة المصرية القديمة التى انطفأ حِسها فى القرن الخامس الميلادى قصريا وحصريا باسم باحث واحد فقط بالقرن التاسع عشر؟

 

هل من الطبيعى أن تنسب قراءة الحضارة المصرية بلغتها وتاريخها إلى الرينيسانس الفرنسى كـ«منجز» لهذا العصر فى الذاكرة الجمعية للشعوب وكأن مصر لم تبالِ بالبحث فى تاريخها، وكأن العلماء العرب أو المؤرخين المصريين لم يبالوا بالاهتمام بالاستماع للماضى وقراءة حروفه؟

 

أيها القارئ، اسمح لى أن أشاركك بعض تساؤلاتى التى أتخيلها مشروعة..

 

أوَ لم يتأثر اليونانيون بالتاريخ المصرى العظيم وتلك اللغة الموسيقية ذات الأحرف الأنيقة والأسطر المرصوصة على جدران المعابد والمقابر؟ خاصة أن روايات المؤرخ هيكاتيه الملطى (520 ق.م) ثم هيرودوت (حوالى 450 ق.م)، ثم أفلاطون فى بداية القرن الرابع قبل الميلاد تشهد كيف داعب كهنة منف وطيبة والفنتين الملوك اليونان بكتابة أسمائهم بهذه الحروف وتصدير صورهم بالزى الفرعونى وتاج الوجه القبلى والبحرى معا، بل وسمح لهم هذا الملك الأجنبى باستكمال نقش متونهم على الجدران تحت المظلة الملكية؟

 

أوَ لم يتفاعل الرومان مع هذا الكم من التراث الثقافى المصرى والذى أثرى مدونات ديودور الصقلى (59 ق.م) واسترابون (25 ق.م) ثم بلوتارخ فى بداية القرن الثانى الميلادى وخاصة التراث اللغوى سواء ما عبر الزمان على أسطح اللفائف أو على صفحات البرديات أو فى وضح جدران المعابد والمقابر وعلى صفحات المسلات التى تداعب بطول قامتها سُحب السماء فى حركاتها الرشيقة؟

 

أوَ لم ينبهر العرب - بعلمائهم وحكمائهم – الذين عاشوا بين أطلال الحضارة المصرية ويتفاعلوا مع نتاج علم المصريين القدماء منذ دخول عمرو بن العاص حتى اعتلى محمد على عرش مصر؟

 

أوَ لم ينبهر الزائرون من أهل الغرب وغيرهم من كل حدب وصوب حدّثنى عن هذه القرون الطويلة.. حدّثنى عن التجارب المختلفة فى التعامل مع الحضارة المصرية..

 

فهناك من انبهر بعظمتها وهناك من مر عليها مرور الكرام لأنه غير مدرك لعمقها، ولا يعى معنى الجمال وهناك من لم يقدرها حق قدرها..

 

الرومان مثلا، لم يروا بعين التقدير هذا الإرث الثقافى الثرى وكانوا أول من جرؤ على اقتلاع المسلة الأطول من دار عبادة آمون لنقلها إلى روما كغنيمة التباهي، فأسسوا سابقة قبيحة توطدت على مر السنوات والقرون حتى وصلوا إلى مجمل 17 مسلة فى روما وقتما مصر كانت تابعة للإمبراطورية الرومانية.

 

كما استباح الجنود الرومان ساحات وقاعات المعابد المصرية القديمة مثل قدس أقداس معبد الأقصر وساحة معبد الكرنك وردهات معابد أخرى على البر الغربى للنيل فى طيبة لإقامة ثكنات عسكرية أثناء مهمة دفاعهم عن الحدود الجنوبية للإمبراطورية، بل إن فيه بعض المواقع مثل معبد الأقصر على سبيل المثال قاموا ببناء كنيسة رومانية فى القاعات المجاورة لقدس الأقداس، بل غطوا النقوش المصرية القديمة - التى كانت تعتبر بالنسبة لهم أحد مظاهر الوثنية - بالجص الملون للقديسين والآلهة المسيحية، أما ساحة الكرنك فقد كشفت الحفائر عن بقايا الفسيفساء التى كانت تغطى أرضية المنازل وفقا للعادات الرومانية آنذاك وكذلك عدد كبير من الأوانى تم العثور عليها أثناء إعادة تأهيل هذه المنطقة عامى 2008 و2009.

 

أما العرب، فقد دخلوا مصر عام 641 م وأسسوا لعصر جديد وديانة مختلفة وفكر تقبل ما وجد عليه أهل وادى النيل، فقد سجلوا انبهارا لا حدود له بالمشاهد الخلابة التى تأملوها على ضفاف النيل وبين وديانه وصحرائه، فاعتبروا مصر بستان الحضرة وأرض العلوم والفنون التى تَحمِل فى طياتها الحكمة ودروس زمان بعيد، زمان ولى والتهمه النسيان إلا أن حروفه خلدته، حروف اللغة المصرية القديمة التى سطرت على المبانى الشاهقة والنقوش المبهرة والتى بلا شك حفزت العرب للوقوف على فك شفرة هذه المخطوطات.

 

لا أملك فى نهاية هذا المقال إلا أن أدعو من لديهم صلاحية القرار فى الملف التعليمى أن يدركوا أهمية تناول مادة التاريخ وأن يتعاملوا معها كأحد العناصر الجوهرية المكونة للإنسان السوى ذى العقل الواعى.

 

فإن التاريخ هو قرار الانتماء و«اللغة» هى قوام للهوية والثقافة هى قلب وعقل الشعوب.

 

إنى أسمع هذا التاريخ المصرى يئن..

 

يئن كى يذكّر القائمين على تعديل المناهج الدراسية بوجوده، فنسمعه بصوت خافت يقول..

 

أنا التاريخ..

 

أنا الحياة

 

أنا أمس واليوم وغدًا

 

فلا تديروا عنى الوجوه وتحفروا بينى وبينكم الأنفاق

 

وتنكروا يوما من أيامي، مهما كانت مرارته

 

فأنا سجل يحمل فى طياته كل هفوة ونسمة وبسمة ودمعة

 

أنا لا أنسى ولا أتناسى ولا أمحو ما كتبت فى يوم من الأيام

 

لأن أوراقى تجف وأقلامى سرعان ما ترفع لتخلدنى كما

 

أنا.. أنا التاريخ!