ما يحمله الرئيس الأمريكى المنتخب دونالد ترامب فى ولايته الثانية ينبئ بحدوث انقلاب وانفلات فى منظومة العلاقات الدولية لا تُحمد عقباها. تصريحات ترامب باستخدام القوة إذا اقتضت الضرورة للاستيلاء على جزيرة جرينلاند الواقعة تحت سيطرة السويد، وادعاءاته لفرض السيادة الأمريكية مجددا على قناة بنما؛ من شأنها أن تقوّض نهائيًّا منظومة العلاقات الدولية التى عانت من خلل وتهتك جلى فى العقدين الأخيرين. لقد بدأت أزمة منظومة العلاقات الدولية مع انهيار الاتحاد السوفييتى، وسقوط جدار برلين، وتفكك حلف وارسو، وانهيار منظومة التوازن الدولى، وما رافق ذلك مع انهيار نظام الرقابة على التسلح، والحدّ من سباق التسلح من خلال إلغاء معاهدة الدفاع الصاروخى، ومعاهدة القوات التقليدية فى أوروبا، واتفاقية السماء المفتوحة، ومعاهدتى ستارت الأولى والثانية. ولعل مبعث الخطر يكمن فى أن الإدارة الأمريكية الجديدة لا تقيم وزنًا للقانون الدولى ومبادئه فى تعاملها مع القضايا الدولية.
فترامب الذى وقّع قرارات بالاعتراف بمدينة القدس عاصمة إسرائيل، وقناعته بحق إسرائيل بالتمدد والتوسع على حساب الدول الأخرى، إضافة إلى تطلعاته إلى ضمّ كندا، وربما غيرها من المناطق؛ يفتح الباب واسعًا أمام سيادة قانون الغاب فى العلاقات الدولية بدلا من أحكام القانون الدولى، وأبرزها عدم جواز الاستيلاء على أراضى الغير بالقوة، وحق الشعوب فى تقرير المصير، وضرورة معالجة الخلافات بين الدول بالوسائل السياسية والدبلوماسية.
ولعل الخطورة تكمن أساسًا فى أن استناد الدول إلى حجج تاريخية ومبررات دينية أو مصالح قومية وأمنية للاستيلاء على أراضى الغير؛ سيؤدى حتما إلى انهيار كامل لمنظومة العلاقات الدولية القائمة حاليًّا، ويدفع الدول القادرة على التوسع على حساب الدول المجاورة، وخاصة الصغيرة منها، وأخيرا قد يقود العالم إلى مواجهة نووية كارثية بين الدول الكبرى، عندما تصطدم مصالحها فى سعيها لإعادة تشكيل العالم وتقاسم مناطق النفوذ.
وإذا كان السلاح النووى قد شكل عاملًا للردع بعد الحرب العالمية الثانية، وخلال السبعين عاما الماضية فإنه تحول الآن إلى عامل للتهديد والابتزاز. وأصبح الحديث عن اللجوء لهذا السلاح أمرا عاديا يتردد كثيرا على لسان كبار المسئولين، عسكريين وسياسيين، على حد سواء.
ولم يعد الأمر يتعلق بالخشية من كوارث استخدام الأسلحة النووية، بل بمَن يملك الجرأة على الضغط على الزر الأحمر أولا. ويبدو جليا أن مَن يسعى لإعادة تشكيل العالم لن يتردد فى اللجوء للسلاح النووى، إذا اصطدمت خططه بمعوقات جيوسياسية واستراتيجية تحول دون ذلك. وجاءت أبرز هذه التصريحات على لسان رئيسة الوزراء البريطانية السابقة ليزا تراس التى أعلنت أنها «لن تتردد فى الضغط على الزر النووى وقت الضرورة»، ولكن يظل الأمل قائما بإمكانية تفادى مثل هذا المنحى بسبب خشية الدوائر الحاكمة فى الدول الكبرى من فقدان ثرواتها الهائلة واستعدادها للتضحية بمصالح بلادها والتراجع فى اللحظة الحاسمة؛ حفاظا على أموالها ومصالحها بالدرجة الأولى. وهذا الوضع ينطبق على أغلبية الدول النووية، باستثناء كوريا الشمالية التى تملك جيشًا عقائديًّا، ولا تعانى من وجود حاشيات طفيلية حاكمة فاحشة الثراء.
وفى ظل هذه الأجواء المتوترة فى الساحة الدولية، يأتى إعلان الرئيس ترامب عن وجود ترتيبات لعقد لقاء مع نظيره الروسى فلاديمير بوتين بعد توليه مهامه فى البيت الأبيض كبادرة طيبة، يمكن أن تنعكس إيجابيًّا على الوضع المتعلق بإنهاء الحرب فى أوكرانيا، ولكن هذه المهمة لن تكون سهلة المنال؛ لأن ترامب يدرك أن روسيا لن تتنازل عن أهدافها فى ضمّ أقاليم تعتبرها جزءا من أراضيها التاريخية، ورفضها المطلق بأن تكون أوكرانيا جزءا من حلف الناتو فى أى وقت من الأوقات، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن حلف الناتو وأغلبية الدول الأوروبية لم يتخلوا عن شعارهم بضرورة إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا فى أرض المعركة؛ خشية منها أن التخلى عن أوكرانيا قد يثير شهية روسيا للاستيلاء على مزيد من الأراضى، ليس فقط فى أوكرانيا بل وخارجها رغم أن موسكو أعلنت مرارا وتكرارا أنها لا تخطط للاعتداء على أحد. وفى الوقت الذى تلقى فيه مطالب موسكو بعدم تقدم حلف الناتو نحو حدودها تفهّم الرئيس ترامب، إلا أنه قد يجد نفسه مضطرًا لمواصلة تقديم الدعم لأوكرانيا؛ خشية انفكاك عقد الدول الأوروبية الحليفة الأوثق لواشنطن وجنوحها للبحث عن حلفاء آخرين فى الساحة الدولية، وهذا الأمر لا يضيف مزيدا من التفاؤل حول إمكانية التوصل إلى تسوية للحرب فى أوكرانيا على المدى المنظور.
وفى الوقت نفسه، فإن لدى الروس مخاوفهم من أن يؤدى اندفاع الإدارة الأمريكية لإعادة تشكيل العالم وفقا للمصالح الأمريكية إلى إثارة فوضى يصعب السيطرة عليها، خاصة إذا راهنت واشنطن على الدخول فى صراع مع الصين التى ترتبط بها موسكو بمصالح استراتيجية يصعب التخلى عنها، إضافة إلى أن روسيا التى عانت عبر تاريخها الطويل من حروب دامية فى القارة الأوروبية تفضل العمل على معالجة الأوضاع الدولية على قاعدة القانون الدولى. وتبعا لذلك ترى موسكو ضرورة العمل بميثاق الأمم المتحدة، وإعادة الهيبة للهيئات الدولية، وخاصة منظمة الأمم المتحدة ودورها المركزى فى الحفظ على الأمن والسلم الدوليين.