لم أشأ وقد عادت «الآنسة أم كلثوم» من أول رحلة لها فى أوروبا أن أترك الفرصة تمر دون أن أقف منها على مبلغ تأثير هذه الرحلة فى نفسها سواء من الوجهة الفنية خاصة أو من الوجهة العامة.
ولست أحاول هنا أن أصف صالونها الفخم ولا كيف استقبلتنى فيه؟ كما أننى لن أتعرض لحديث شراب الليمون وطعم القهوة اللتين حييت بهما، ولكننى أختصر الطريق قائلًا إننى وجهت إلى «ثومة» أربعة أسئلة وطلبت منها الإجابة عليها فرغبت أن أمهلها أسبوعا كى توفى الإجابات حقها من التوسع والشرح، إلا أننى أظهرت لها قناعتى بما ستشافهنى به من ردود، فانطلقت تحدثتى ببيان عذب لم يخل من ظرف امتازت به «ثومة» ومن نكات تعرف هى كيف تتصرف فى توجيهها وكيف تتخير لكل منها المناسبة ومقتضى الحال، وهاك الأسئلة الأربعة:
ما رأيك فيما سمعت من الموسيقى الإفرنجية؟
وهل يمكن الاستعانة بها فى تحسين أسلوب الغناء العربى؟
هل لذتك تلك الرحلة؟ وهل تفكرين فى تكرارها؟
ما الذى تنوين عمله فى الموسم الجديد؟
الموسيقى الإفرنجية
وألقت أم كلثوم نظرة على وقعة الورق التى خططت بها هذه الأحرف ثم انطلقت تجيب:
أصبحت الموسيقى الإفرنجية- أو قل معظمها عبارة عن «جاز» من النوع المغلق المزعج الذى يثير الأعصاب ويحول دون التمتع بشيء من الطرب وحسن الإصغاء، أما النوع «الكلاسيك» الجذاب الأخاذ فقد حاد الغربيون الآن عن سبيله، وأعتقد اعتقادا جازما أن السبب فى ذلك هو أن رجال الفن الحاليين هناك قد عجزوا عن متابعة أسلافهم، فصعب عليهم أن يخططوا لأنفسهم الطريق السوى الذى مهده الأوائل، ومن ثم لجئوا إلى موسيقى «الجاز» التى لا أجد لها وصفا أصلح من تسميتها «بالزار الإفرنجى» وإلا فاى خيال يعيش فيه الفنان وسط هذا الضجيج المزعج ووجع الدماغ الذى ينتاب السامع كلما هم بارتياد مأوى يستسلم فيه إلى تغذية الروح والنفس؟
«وأظنك معى فى أن الموسيقى هى الغذاء الصالح للنفوس الظامئة، فإذا لم تؤد مهمتها هذه على الوجه الأكمل فحرى بها أن تهمل إهمالا.
الاستعانة بالموسيقى الغربية
«ذلك هو الشعور الذى تملكنى بعد سماع ما سمعت فى رحلتى من موسيقى إفرنجية، وأنى لأرى بعد ذلك أن أوجه إليك أنت نفس السؤال الذى توجهه إلى وهو:
هل يمكن الاستعانة بمثل هذه الموسيقى فى تحسين أسلوب الغناء العربى؟
نعم أوجه إليك السؤال ولا أشك لحظة فى أنك ستشاطرنى الرأى وستكون إجابة كل منا متوافقة فى استحالة التماس العون لموسيقانا من مثل هذا النوع المزعج.
ثم ماذا ينقص موسيقانا من الحسن حتى تطلب لها هذه المعونة.
«إن موسيقانا أجمل وأفضل من الموسيقى الغربية ولكن ينقصنا شىء واحد يجب أن ندركه ونتداركه: ذلك هو ضرورة إيجاد الآلات الموسيقية الصالحة والإكثار منها لأننا إلى اليوم لا نرى من الآلات الرئيسية فى موسيقانا غير «العود والقانون والكمان» وهذه وحدها لا تكفى للتعبير عن كافة المشاعر.. أما إذا كثرت الآلات واهتممنا خاصة بالنحاسية منها استطعنا أن نوجد ذلك النوع الساحر من الموسيقى التى تعبر فيها الأنغام عن العواطف أحسن تعبير.. لا بل عن الظواهر الطبيعية نفسها كالعواصف وهبوب الرياح وتلاطم الأمواج وسكون الليل وهدوء الكون وما إلى ذلك من ظواهر تصبغها الموسيقى بصبغتها الطبيعية فتحس بها الأذن كما يحس بها الإنسان فى الجو الحقيقى الذى تترجم عنه تلك الموسيقى.
«هذا هو ما ينقصنا لنبلغ الكمال بموسيقانا فيما عدا ذلك فإن موسيقانا وافية بالغرض وهى فوق ذلك أحب إلى النفوس من الموسيقى الغربية».
رحلة لذيذة
ثم انتقلنا إلى السؤال الثالث فقالت الآنسة:
«نعم، لقد اغتبطت أيما اغتباط برحلتى هذه التى مكنتنى فى مدة قصيرة من الوقوف على أشياء جديدة يحتاج المرء فى استيعاب شئونها إلى رحلات متعددة ذلك لأننا اتخذنا فى ذهابنا طريق البحر الطويل فمررنا بثغور إيطاليا وفرنسا وأسبانيا والبرتغال وجنوبى إنجلترا.. وكانت الباخرة تقضى فى كل من هذه الثغور ليلة كاملة فكنا ننتهز الفرصة ونغادرها برحلات برية بالسيارات حيث نلم بأهم ما تمتاز به كل ناحية من النواحى التى مررنا بها، وسأعمل بمشيئة الله على تكرار الرحلات على أن يكون اتجاهى القادم إلى بلاد جديدة غير التى رأيتها فى رحلتى هذه».
الموسم القادم
وهنا قلت لها: «بقى أن تجيبى على السؤال الأخير»
فابتسمت وقالت:
«أظن أن هذا السؤال سابق لأوانه، وأننى لم أضع تصميما نهائيا لما أنويه فى الموسم القادم، وكل ما هنالك أننى أذيع أغانى فى الراديو مرة كل أسبوع، أما موضوع الحفلات العامة فأننى مازلت أدرسه ولم أنته فيه إلى رأى لأن المجال ما زال متسعا أمامى».
وإلى هنا كان الحديث الرسمى قد انتهى وكنت على وشك الاستئذان لولا أن «الدردشة» طابت لنا فامتدت إلى ذكر عملها السينمائى، وهنا قالت: «إنها على سابق عزمها فى ضرورة إخراج فيلم غنائى ولكنها تفضل التمهل قليلا لاعتبارات خاصة ليس هذا أوان تبيانها أو الإفاضة فى شأنها.