«هنا القاهرة الزاهرة العاطرة الشاعرة النيّرة الخيّرة الطاهرة».. هنا وفى قلب القاهرة النابض بالحياة، عاصمة الثقافة العربية، حيث تتداخل الفنون والآداب عبر العصور، أضاءت الثقافة العمانية سماء القاهرة خلال فعاليات الدورة الـ56 من معرض القاهرة الدولى للكتاب، بعد أن حلت سلطنة عمان ضيف شرف على هذا الحدث الكبير، ليكون اختيارها تجسيدا لعمق العلاقات الثقافية الممتدة بين مصر وعمان.
عُمان، التى لطالما شكلت حلقة وصل بين الشرق والغرب بفضل موقعها الجغرافى وثرائها التاريخي، كانت حاضرة بحضارتها وثقافتها فى معرض القاهرة للكتاب لتقدم مزيجا ساحرا من جوانبها الثقافية والتراثية.. فعند دخول الجناح العماني، تشعر وكأنك فى رحلة عبر الزمن، حيث يحاكى تصميمه بعناية شوارع ومساحات الحارات التقليدية العمانية، فالأبواب الخشبية المزخرفة معلقة على جدران الجناح، والزخارف التى تزين الجدران تأخذك إلى عالم مختلف تماما، حيث يلتقى الماضى بالحاضر فى تناغم فريد، هذا التصميم لم يكن مجرد ترف زخرفي، بل كان وسيلة لربط الزوار بتاريخ عمان العريق، الذى يمتد لقرون من الزمن.
كل زاوية فى الجناح كانت تروى قصة من عمق الثقافة العمانية، فمن بين أبرز المعروضات نوادر المطبوعات والمخطوطات العمانية، لما يعود إلى ما يقارب 900 عام، وهى توثق مجالات علمية مختلفة مثل التاريخ، واللغة، والفقه، والأدب كما أن عددًا من هذه المخطوطات مسجل فى سجل ذاكرة العالم، نظرا لأهميتها العلمية، خاصة تلك المتعلقة بالطب والملاحة البحرية واللغويات، كما ضم الجناح العمانى مجموعة من المطبوعات الحجرية العمانية التى تم طبعها فى مصر قبل أكثر من 135 عاما، مما يؤكد عمق الروابط الثقافية بين البلدين.
لم تقتصر المشاركة العمانية على المعروضات فقط، بل شملت أيضًا تجربة تفاعلية حية للزوار من خلال تحضير وتقديم القهوة العمانية، التى تعد جزءًا لا يتجزأ من الثقافة العمانية الأصيلة، هذا إلى جانب ركن الواقع الافتراضى الذى سمح للزوار بالانغماس فى تجارب ثقافية عمانية مثل فن البرعة ولبس الخنجر العماني، التى تعد من العناصر المسجلة فى قائمة التراث الثقافى غير المادى فى اليونسكو.
أما فيما يخص الفعاليات الثقافية، فقد شهد المعرض برنامجًا حافلًا يضم ندوات وجلسات نقاشية حول الأدب العمانى والعلاقات التاريخية بين مصر وعمان، كما كانت هناك دراسات أكاديمية تتناول الروابط الثقافية بين البلدين فى مجالات الرواية والشعر والموسيقى، إضافة إلى حضور أكاديميين مصريين تحدثوا عن تجاربهم فى التدريس بالجامعات العمانية، مثل جامعة السلطان قابوس.
أثناء زيارتنا المتكررة لمعرض القاهرة الدولى للكتاب شاهدنا العروض الفنية العمانية، وهى جزء أساسي من البرنامج الثقافى للسلطنة فى المعرض، حيث قدمت الفرق العمانية مجموعة من الفنون الشعبية التى لاقت إعجاب الجمهور، هذه العروض لم تكن مجرد احتفالات فنية، بل كانت بمثابة جسور نحو التعرف على الثقافة العمانية. وفى الحقيقة السفير العمانى عبدالله بن ناصر الرحبي، قام بدور كبير لإبراز ثقافة سلطنة عمان بشكل يليق بحضارتها وتاريخها، ومن اللحظة الأولى وهو يؤكد أن اختيار سلطنة عمان ضيف شرف فى هذا المعرض الدولى الكبير، اعتراف مقدر، بدور سلطنة عمان فى الثقافة العربية، وتأكيدا لعلاقات عمانية مصرية تمتد فى التاريخ لآلاف السنين، وتمتد فى الواقع لتشمل السياسة والثقافة والتبادل التجاري، وهى علاقات شيدت على قاعدة صلبة من القناعة بالمصير المشترك والأفق الواحد الذى تسعى الدولتان الشقيقتان إلى بلوغه فى خدمة رقى الإنسان والأوطان وسلام الإنسانية.
ومن أبرز الندوات التى عقدت على هامش فعاليات معرض الكتاب كانت بعنوان «من القاهرة هنا مسقط.. الفضاءات العمانية فى القاهرة»، وفيها استعرض السفير الرحبى تجربته الشخصية فى مصر، حيث درس فى جامعة الإسكندرية فى وقت كان عدد الطلاب العمانيين كبيرًا، ما دفعهم إلى تأسيس صالون ثقافى ومجلة ثقافية، وكانوا يعقدون نشاطات ثقافية يومية، وأن الفضاء الثقافى المصرى يعتبر أحد الأعمدة الأساسية للثقافة العربية.
ليعود ويؤكد السفير الرحبى فى ندوة بعنوان «مختبر الثقافة العمانية»، أن سلطنة عمان بصدد إطلاق مشروع «المختبر الثقافى العماني» فى مصر، وأن الثقافة المصرية متغلغلة فى سلطنة عمان، مشيرًا إلى وجود روايات «نجيب محفوظ وأغانى «أم كلثوم» فى كل بيت عمانى، وأن الجامعات المصرية كانت دائمًا تفتح أبوابها أمام الطلاب العرب، فالثقافة دائما هى التى تجمع الشعوب.. هذه التصريحات تؤكد بلا شك قوة «مصر الناعمة» ودور الدبلوماسية الثقافية المصرية التى ظلت لعقود طويلة رائدة فى تعزيز العلاقات الثقافية بين الشعوب العربية والأفريقية.
ومن أهم الندوات التى حرصت على حضورها ندوة بعنوان «السرد العماني.. الحضور المتصاعد»، والتى شهدت حضور مجموعة من أبرز الأسماء الأدبية العمانية، وفيها تناول الإعلامى سليمان المعمرى تطور الأدب السردى العماني، مشيرًا إلى أن فوز الروائية جوخة الحارثى بجائزة مان بوكر الدولية فى 2019 مؤشر على نضج الأدب العماني، كما استعرض المعمرى تاريخ الأدب العمانى بدءًا من أول رواية عمانية «ملائكة الجبل الأخضر» لعبدالله الطائى فى 1963، وأول مجموعة قصصية «سور المنايا» لأحمد بلال بحار فى 1981.
شارك فى الندوة الروائية بشرى خلفان التى أكدت أن مشروعها الأدبى يتناول قضايا الانتماء والذاكرة، والروائى زهران القاسمى الذى تحدث عن استلهام رواياته من البيئة العمانية القروية، كما تحدث الأديب عبدالله حبيب عن تأثير المعلمين المصريين فى تعزيز التعليم العمانى خلال السبعينيات، أما الروائى محمد سيف الرحبي، فقد وصف الكتابة بـ»المغامرة» وأشار إلى تجربته فى المسرح ودور عمله الصحفى فى تطوير مهاراته الأدبية.
كما حضرت ندوة «عباقرة عمانيون.. من الفراهيدى إلى ابن ماجد»، والتى تسلط الضوء على إسهامات العلماء العمانيين فى مجالات الأدب والملاحة والعلوم المختلفة، وفيها تحدث الشيخ أحمد بن سعود السيابى أمين عام مكتب الإفتاء، عن العلماء العمانيين مثل الفراهيدى، مؤسس علم العروض والنحو، وابن دريد، صاحب «كتاب الجمهرة» فى اللغة، بالإضافة إلى سلامة بن مسلم العوتبى فى مجال اللغة، ثم تطرق الدكتور حبيب بن مرهون الهادى إلى العلماء العمانيين فى الطب، مثل ابن الذهبى الأزدي، مؤلف أول معجم طبى لغوى فى التاريخ، وابن عميرة الرستاقي، الذى كان طبيبًا وصيدلانيًا بارزًا.
إن مشاركة الدول العربية كضيف شرف فى معرض القاهرة الدولى للكتاب تفتح آفاقًا واسعة أمامنا جميعًا كعرب، لتعزيز الحوار والتواصل بين الثقافات، ولتعريف الأجيال الجديدة بمن نحن، وأين نقف، وما الذى نمتلكه من إرث ثقافى عظيم، مما يعزز من فهمنا المتبادل، ويعكس عمق الروابط الثقافية بيننا..
وفى الختام، لا يسعنى إلا أن أشيد بالتنظيم الرائع لهذه الدورة من معرض القاهرة الدولى للكتاب، الذى حظى بحضور ضخم يفوق كل التوقعات، خاصة من الشباب، ما يعكس اهتمامهم الكبير بالثقافة والكتاب.