رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

محمد السيد... «زى الفل»


17-2-2025 | 06:46

محمد السيد... زى الفل

طباعة
بقلـم: أشرف التعلبى

يقول الإمام الشافعى:

 

دع الأيام تفعل ما تشاء وطب نفسا إذا حكم القضاء

 

ولا تجزع لنازلة الليالى فما لحوادث الدنيا بقاء

 

وكن رجلا على الأهوال جلدا.. وشيمتك السماحة والوفاء

 

هذه الأبيات تتناغم تماما مع شخصية الصحفى المبدع محمد السيد، زميلنا فى مؤسسة دار الهلال.. الذى يضحك فى أوج الألم، ويكتب رغم عجزه عن إمساك القلم، ليعبر عن مشاعره الحزينة وهو يضحك ساخرا من ألمه، فى محاولة صادقة منه لعدم إزعاجنا، هو يعتقد أنه إذا تحدث عن معاناته سيزعجنا، لكنه لا يدرك أن صمته يجعلنا نتألم أكثر، وغيابه يزيد من حزننا، لأننا نشتاق إليه أكثر مما يتخيل، ونحبه أكثر مما يتصور.

لقد اعتدنا أن نراه قدريا، قويا، مبتسما، راضيا.. وهو كذلك، فى وسط أزماته الصحية، يفاجئنا بكتابات بديعة، سواء فى مقالاته فى موقع بوابة الهلال الإخبارية، أو حتى فى كتابه الحديث الصادر عن دار نشر «صوت الوطن» ويحمل عنوان: «زى الفل»، وهو رسالة واضحة منه ليس فقط لنا كأصدقاء وزملاء.. بل لكل مريض سرطان، فعبر هذا الكتاب، لم يكن محمد يتحدث عن نفسه فقط، بل يعبر عن معاناة كل مريض يقاوم الألم بصمت، يُخفى حزنا عميقا وراء ابتسامة تخفى الألم.

 

كتاب «زى الفل»، الذى جاء فى 112 صفحة، ليس مجرد عنوان عابر، هو مزيج من الدراما الواقعية والتجربة الشخصية فى أسلوب بسيط بعيد عن التخصص الطبى، لكنه فى النهاية يلهمنا جميعا–سواء مرضى أو أصحاء– بالرضا، والشجاعة، والصبر فى مواجهة الحياة بكل تحدياتها.

 

وكتب «محمد» فى مقدمة كتابه يقول: «أحبابى ألتمس منكم ألف عذر إذا كان كتابى به بعض الهفوات فأنا فى عنفوان ألمى وأسابق الزمن لأسرد لكم بعضا من رحلتى التى بدأت منذ أكثر من عام.. أكتب بأعصاب لم تحتمل التحكم بالقلم وأعين لم تقو على دقة الملاحظة والمراجعة.. سويعات بينى وبين الحياة الأخرى، الأقدار بيد الله وكذلك الأعمار، أتمنى أن يظهر هذا العمل وأشاهد ظهوره للنور وتكريمى بنفسى لا يتسلمه غيرى، مثلما رأيت حب الناس على مرأى حياتى».

 

وما جاء فى الفصل الأول لم يكن بدافع الشكوى أو الشفقة لكن كان فى قلبه رجفة وفى روحه غصة جعلته يرغب فى الفضفضة، لوصف واقع الطب والمستشفيات، وتحدث فيه عن بداية المرض عندما قال له الطبيب فى ليلة شتوية عاصفة وبدون أى مواربة أنت «مريض سرطان» كان ذلك فى نوفمبر من عام 2023، لتنتابه صدمة مما قاله الطبيب، لدرجة جعلته يشعر أنه يعايره.. وهو ما دفعه لزيارة أطباء آخرين ربما ينكرون ما قاله الطبيب الأول، لكنهم مع الأسف أكدوا بل زادوا وقالوا: «أنت فى حالة متأخرة جدا.. ولا بد من دخول العمليات حالا»، ليبدأ منها رحلة علاجية شاقة، تحتاج رجالا أشداء.

 

فبينما نعرف نحن «محمد» بالضحك والمرح، تأتى هذه اللحظة لتعكس كيف يمكن للفكاهة أن تتسلل حتى فى أحلك الظروف لكن هذه المرة كانت كوميديا أغلبها من اللون الحزين، عندما اتخذ قرارا مفاجئا دون أدنى تفكير عندما قرر الهرب من المستشفى بعد أن مل انتظار إجراء العملية الجراحية، وحينها كان جسمه مغروسا بالخراطيم فلم يجد أمامه ممرضة تساعده، فقام بنزعها من جسده دون أى شعور بالألم، بل شعر براحة غريبة جعلته أقوى مما كان عليه، ليسرع من خطواته نحو باب الخروج وعندما فوجئ برجل الأمن كان رده بارتجال لحظي: نفسى آكل ساندويتش فول.. وبالفعل صدقه وخرج!.

 

ومن مستشفى حكومى إلى خاص، ومن أشعة إلى تحاليل، حتى أجرى عملية جراحية أدت إلى ثقب فى معدته، وكان السبب وراء ذلك إهمال طبيب لم يكن يرد إلا بكلمة واحدة عندما يسأله أحد: «زى الفل» هذه الكلمة، التى كانت فى البداية تُستخدم لتخفيف وطأة الموقف، أصبحت بالنسبة له، كما يقول محمد فى كتابه، غصة فى حلقه، ويقول: إحقاقاً للحق، أصبحت مستاء من تلك العبارة التى كان يرددها الطبيب بلا مبالاة.. بعد العملية الثانية، وجسدى المتهالك تماما، قالها مرة أخرى بنفس النبرة: «زى الفل» ثم أخبرنى أننى بحاجة إلى بروتوكول علاج، وأننى سأحتاج فقط إلى بعض جرعات الكيماوى الخفيفة، ولكن الصدمة كانت أكبر عندما اكتشفت أنه يجب على تلقى أقوى أنواع العلاج الكيميائى.

 

ثم تطرق «محمد» فى سرد رحلته مع المتاعب إلى الفرق بين الخطأ الطبى والخطأ المهنى والأخلاقى، مؤكدًا أنه لا طبيب يتعمد إيذاء مريض، فالجميع يطمح إلى نجاح العمليات وخروج المرضى بصحة أفضل، لأن الطب بالنسبة له ولنا جميعا هو رسالة إنسانية سامية.. لكنه شدد على أن الخطأ المهنى والأخلاقى له تداعيات خطيرة، تبدأ بعدم مصارحة المريض بحالته الحقيقية، مرورًا بخطأ التشخيص، ثم تجاهل تقديم العلاج المناسب، هذا كله أضاف عبئًا جديدًا على معاناته، إذ اكتشف الأطباء فيما بعد ثقبا فى الإثنى عشر، وتسريبا فى القولون، بالإضافة إلى الاستسقاء والتسمم، وكل ذلك كان نتيجة لإهمال الطبيب المعالج صاحب عبارة «زى الفل» التى كانت تزيد من شعوره بالغضب والإحباط.

 

ورغم صعوبة مرض «محمد» إلا أنه يمتلك طاقة إيجابية لا حدود لها، ويحرص على توزيعها على كل من حوله، فلا يمر يوم دون أن يشاركنا منشورًا على جروب الواتس آب أو الفيسبوك، يقدم فيه نصيحة تتعلق بالعمل أو يعزى أو يهنئ أحد الزملاء.. لا أفهم كيف يتمكن من القيام بكل هذا، وكيف يظل يملك كل هذه الطاقة الإيجابية رغم معاناته.. إنه حقًا أمر يستحق التأمل والوقوف أمامه.

 

فى أحد فصول كتابه الشيق، يعترف محمد قائلاً: تملكتنى لحظات يأس كثيرة، خاصة فى كل مرة أذهب فيها لإجراء تحاليل وأشعة، حيث لم تظهر نتائج مرضية على مدار أكثر من عام، ورغم ذلك، كان التفاؤل يسيطر على وكأننى فى تحدٍ مستمر.. ثم يوجه نصيحة قوية لمريض السرطان قائلاً: «لا تطفئ نور غرفتك، اجعل الضوء حولك دائمًا، عش وتكيف مع علاجك، فقد كنت أضبط المنبه ليذكرنى بمواعيد الدواء على نغمات ضاحكة».

 

فى كتابه «زى الفل» تناول دور فرق التمريض الذين كان لهم دور كبير فى مساعدته خلال رحلة مرضه وعلاجه، وهى رحلة مليئة بالتفاصيل والمعاناة، وذكر العديد من المواقف الإيجابية التى جمعته بهؤلاء الأبطال، وأكد أن دورهم قد يكون أدق وأصعب من دور الطبيب نفسه، فعلى الرغم من أن المرض كان يشكل تحديًا كبيرا، إلا أن هؤلاء الممرضين والممرضات كانوا بحق مصدراً للقوة والدعم فى كل مرحلة من مراحل العلاج.

 

وفى ذات الوقت، تحدث عن أطباء قابلهم طوال رحلته العلاجية، وقال إنه تمنى من الله أن يعفو عن جسده المرض، حتى يتمكن من كتابة دواوين من الشعر لهم، لأنهم بحق أهل للتفانى والمثابرة الممزوجة بالتفاؤل، هؤلاء الأطباء لم يكن دورهم مقتصرًا على العلاج الطبى فقط، بل كانوا يحملون فى أيديهم أملًا حقيقيًا ومعنويات عالية جعلته يشعر بأن هناك من يشاركه هذه الرحلة الصعبة بكل رحابة صدر.

 

فى الفصل الأخير من الكتاب، مجموعة من الرسائل التى نجحت الزميلة «ولاء نور الدين» صاحبة دار النشر «صوت الوطن» الصادر عنها الكتاب، فى جمعها من عشرات الصحفيين الذين كتبوا رسائل إلى صديقهم «محمد السيد» لتكون هذه الرسائل هدية مفاجئة، لم يكتشفها محمد إلا بعد طباعته، وهو ما رسم على وجهه ابتسامة عريضة، ابتسامة تمنينا أن تدوم إلى الأبد.

 

كما تضمن الجزء الأخير ألبومًا من الصور التى تمثل ذكريات لا يمكن نسيانها فى حياته، لحظات كانت مليئة بالأمل، بالصبر، وبالإصرار على أن الحياة تستحق العيش رغم كل ما مر به.. وأخيرا، أدعوكم جميعا لقراءة كتاب «زى الفل»، لتستمتعوا بمشاعر الأمل والتفاؤل التى يحملها بين طياته

، ولتضحكوا رغم كل شيء.