مع دخول الحرب عامها الرابع، تواجه أوكرانيا صعوبة بالغة فى حماية نفسها من الصواريخ الباليستية الروسية بعد إعلان واشنطن تجميد مساعدتها العسكرية وسط تقارب لافت مع الكرملين، هذا التحول فى مسار الحرب أثار مخاوف القارة العجوز من تصعيد عسكرى غير مسبوق قد يستهدف أراضيها، والصحوة المتأخرة لم تترك خيارا أمام أوروبا سوى التسابق لتعزيز الاستقلالية الدفاعية للقارة أمام التهديدات الروسية.
على مدار الحرب، أثبتت روسيا قدراتها العسكرية الفائقة بتطويرها عددا من المنظومات الصاروخية فى خطوة ساهمت فى إحراز موسكو تقدما كبيرا فى ساحة المعركة، وفرض سيطرتها على مساحات شاسعة من الأراضى الأوكرانية، ومن أبرز هذه التطورات الصاروخ الباليستى متوسط المدى «إسكندر- 1000» وهو نسخة مطورة من المنظومة «إسكندر- إم» البالغ مداه 500 كيلومتر، كشف عنه لأول مرة فى مايو الماضى خلال مقطع فيديو احتفالًا بالذكرى الـ78 لموقع اختبار الصواريخ «كابوستين يار» بدقة فائقة ومدى يصل إلى ألف كيلومتر، بإمكان الصاروخ «إسكندر- 1000» المتوقع نشره فى إقليم «كالينينغراد» الواقع فى غرب أوروبا أو منطقة «سمولينسك»، استهداف نحو نصف دول القارة العجوز، إضافة إلى الأصول المهمة فى بحر البلطيق، مما أثار الذعر حول مستقبل الأمن الأوروبى فى ظل إمكانية اتساع رقعة الحرب لتطال دولًا أوروبية أخرى.
وفى ظل تعزيز روسيا لترسانتها الصاروخية، تجد أوروبا نفسها فى حاجة إلى تعزيز قدراتها الدفاعية وخلق منظومة أمنية لا تعتمد على الدعم الأمريكى غير المشروط كالسابق؛ خاصةً أن أمن أوروبا لم يعد من أولويات الرئيس الأمريكى دونالد ترامب الذى يرى أن العداء مع التنين الصينى يأتى فى المقام الأول. ومنذ ولايته الأولى، يتبنى ترامب، نهجًا متشددًا، إزاء حلفائه الأوروبيين فى حلف «الناتو» فيما يتعلق بالإنفاق الدفاعى؛ حيث يرى أن الحلف زاد من كاهل واشنطن التى تحملت وحدها ثلثى الإنفاق الدفاعى لأوروبا بميزانية تقارب التريليون دولار. ومن جهة أخرى، أعلنت واشنطن تعليق المساعدات العسكرية لكييف فى أعقاب المشادة الكلامية بين ترامب ونظيره زيلينسكي.
واستجابة للتطورات الجيوسياسية الحالية، كشفت أورسولا فون دير لايين، رئيسة المفوضية الأوروبية، عن خطة «إعادة تسليح أوروبا» التى تهدف إلى حشد نحو 800 مليار يورو لتعزيز الدفاع الأوروبي، إضافة إلى تقديم مساعدة فورية لأوكرانيا، مشيرة إلى أن 150 مليار يورو من هذا المبلغ ستُقدم كقروض للدول الأعضاء. وبالرغم من تسابق الدول الكبرى مثل ألمانيا وبريطانيا، على زيادة الإنفاق الدفاعي، وإعلان الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون استعداده لاستخدام الأسلحة النووية الفرنسية، لتشكيل مظلة نووية من أجل حماية الاتحاد الأوروبى بأكمله، إلا أن أوروبا ستواجه صعوبات عديدة تتمثل فى قلة الأعداد والعتاد من أسلحة وذخيرة، وضعف الخبرات العسكرية مقارنة بالجيش الروسي.
واعترف الأمين العام لحلف شمال الأطلسى مارك روته بقوة موسكو فى يناير الماضي، عندما أشار إلى أن الكرملين ينتج أسلحة أكثر فى ثلاثة أشهر مما تنتجه القاعدة العسكرية الصناعية لحلف الناتو فى عام كامل.
فى هذا السياق، أشار الدكتور أديب السيد، الخبير فى الشؤون الروسية والعلاقات الدولية، إلى أن أوروبا مضطرة لتولى قضية الدفاع بعد أن كانت تعتمد على واشنطن بشكل شبه كامل. والحديث يدور عن تخصيص حوالى ألف مليار دولار لأغراض الدفاع حتى عام 2030 لكى تستطيع أوروبا مواجهة التحديات الروسية. ولكن على ضوء تنامى الصناعات العسكرية الروسية عامًا بعد عام وظهور منظومات صاروخية عصرية لدى الروس سيتوجب على أوروبا تخصيص الكثير من الموارد المالية والصناعية إضافة إلى الوقت لكى تتمكن من اللحاق بركب روسيا وهذا أمر متعب ومكلف. واعتقد أن أوروبا ستقوم بعد أن تقتنع بعدم وجود أطماع لروسيا فى أوروبا بإقامة جسور للحوار مع موسكو لتلافى نقاط الخلاف وتبادل الضمانات الأمنية التى طالما طالبت بها روسيا.
ولفت «أديب» الانتباه أن الوقت لا يزال مبكرًا للحديث عن تخلى واشنطن عن أوروبا على ضوء ثلاثة معطيات، أن الدولة العميقة فى أمريكا تعترض على هذا التوجه أولًا؛ ولأن أوروبا بحاجة ماسة إلى الدعم السياسى والعسكرى الأمريكى، ثانيًا وأخيرًا لعدم وجود تناقضات جوهرية ستؤدى إلى خلق حالة عداء بين الجانبين. فكل ما فى الأمر أن الإدارة الأمريكية الحالية تريد من أوروبا أن تنفق كثيرًا على أغراض الدفاع، وأن تدفع لواشنطن بديلا عن الحماية التى توفرها أمريكا لأوروبا. والجميع يدرك أن الخلاف حول أوكرانيا قابل للزوال وأن بإمكان أوروبا أن تقبل بتسوية للنزاع الروسى الأوكرانى يحفظ ماء الوجه لها.
وعن مخاوف اتساع رقعة الصراع، قال «أديب» إن تهديد الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون بتعزيز المظلة النووية الفرنسية فى أوروبا ردًا على التقارب الروسى الأمريكى ومحاولة واشنطن فرض تسوية على أوكرانيا فتح الباب واسعًا أمام مختلف التكهنات حول احتمال حدوث مواجهة نووية بين الدول العظمى خاصةً فى القارة الأوروبية. وجاء رد الفعل الروسى على لسان وزير الخارجية سيرغى لافروف طبيعيًا حيث اعتبر أن تصريحات ماكرون تشكل تهديدًا للأمن الروسى. ويبدو أن الروس ليسوا فى عجلة من أمرهم للدخول مع الأوروبيين فى مواجهة ساخنة لإدراكهم أن الدول الأوروبية خاصةً بريطانيا وفرنسا وألمانيا تبذل كل جهدها للحيلولة دون اكتمال الدور الأمريكى فى التوصل إلى تسوية تضع نهاية للحرب فى أوكرانيا، وثانيًا لأن روسيا تملك ترسانة نووية أضعاف ما تملكه فرنسا وبريطانيا معًا. لكن لا بد لروسيا أن تشعر بالقلق إذا ما قررت الدول الأوروبية مجتمعة زيادة الإنفاق الدفاعى بعدة أضعاف خلال الأعوام القادمة وتخصيص حوالى 800 مليار دولار خلال الأعوام القادمة للأغراض العسكرية فى مواجهة روسيا لأن هذا سيفرض على روسيا كذلك زيادة حجم الإنفاق العسكرى.
وبشأن اشتعال «سباق التسليح»، أوضح «أديب» أنه بدأ انهيار منظومة الرقابة على التسلح منذ انسحاب واشنطن من معاهدة الدفاع الصاروخى، والتى كانت تشكل حجر ركن فى منظومة نزع السلاح. والولايات المتحدة الأمريكية انسحبت من معاهدة السماء المفتوح ومعاهدة تقليص الأسلحة الاستراتيجية «ستارت 1» ولم يبقَ عمليًا سوى معاهدة «ستارت 3» التى ينتهى العمل بها فى فبراير العام القادم، ولا توجد مؤشرات حتى الآن لبدء مشاورات حولها علمًا بأن تصريح الرئيس ترامب حول عزمه تقليص الأسلحة النووية يبعث الأمل فى إمكانية التوصل إلى معاهدات لنزع السلاح ووقف سباق التسلح. ولكن هذا المنحى يتعثر لأن الولايات المتحدة الأمريكية تريد أن تشمل أى معاهدات لتقليص الأسلحة الهجومية الاستراتيجية الصين، فيما تطالب روسيا بضرورة أن تنضم بريطانيا وفرنسا إلى هذه المباحثات. ولكن هذا الأمر يبدو حتى اللحظة عصيًا بالنسبة للندن وباريس وبكين على حد سواء بحجة أن واشنطن وموسكو تملكان مخزونًا هائلًا من السلاح النووى لا بد من تقليصه إلى الحدود الدنيا حتى يستوى مع مخزون الدول الثلاث الأخرى.

