«لا شيء سيقف أمامنا».. هكذا صرح ترامب أثناء توليه منصبه الجديد فى يناير، ولم تكن كلمة من فراغ، فعلى مدار خمسين يومًا فى المكتب البيضاوى، غيّر ترامب جميع قواعد اللعب، وأصدر قرارات وتبنى سياسات ربما ليست بغريبة عليه، لكنها قد تكون غريبة على البيت الأبيض ذاته.
منذ توليه خرج ترامب بالعديد من القرارات التى هزّت العالم، أبرزها موقفه مع أوكرانيا، التى اعتادت أن تكون الولايات المتحدة الداعم الأكبر لها منذ بداية الحرب مع روسيا، فمن دون سابق إنذار ودون إعلان رسمى عن تراجعه عن مساره ودون تقديم أى مبرر استراتيجى، دفع ترامب الولايات المتحدة لتغيير موقفها للنقيض فى حرب أوكرانيا، كما أنه لم يتردد عندما وجه الولايات المتحدة للتصويت مع روسيا وكوريا الشمالية وتبنى موقفهما –ضد جميع حلفاء أمريكا التقليديين- لإحباط قرار الأمم المتحدة الذى كان يدين موسكو كمعتدٍ، أما الأكبر والأكثر تأثيرا فكانت تهديداته بالاستيلاء على قناة بنما وجرينلاند وغزة، والأدهى من ذلك كانت كندا التى شهدت تهديدات عدائية من ترامب.
فقد قطع ترامب إمدادات الأسلحة عن أوكرانيا وحتى صور الأقمار الصناعية بشكل جزئي، بعدما تصاعد الخلاف بينه وبين الرئيس الأوكرانى فلاديمير زيلينسكى فى المكتب البيضاوى منذ حوالى أسبوعين، وقد شهد العالم بأجمعه حدة الخلاف بينهما، كما فرض ترامب رسوما جمركية على حلفائه، بعد أن وصفهم بأنهم عائق للاقتصاد الأمريكى الأمر الذى سبّب شرخًا فى العلاقة الأمريكية ودول الناتو، لدرجة أن فرنسا تفكّر فى توسيع مظلتها النووية الصغيرة لتشمل أوروبا، كما أعلنت بولندا عن تفكيرها فى بناء سلاحها النووى الخاص، حيث تخشى الدولتان من أن الولايات المتحدة لم تعد الحليف الأكثر قوة الذى يمكن أن يُعتمد عليه الاعتماد الأكبر فى الدفاع عن الحلف، وهو الدور الذى اختارته لنفسها منذ صياغة معاهدة الناتو.
تغيير جذرى فى سياسات مرّ على تأسيسها مئات الأعوام، وحسب الخبراء لن نعلم إذا كانت هذه التغييرات دائمة أم لا قبل أربع سنوات على الأقل، بل حسب البعض فإن ترامب يقوّض للنظام القديم دون أن يصف النظام الذى يتصوره لاستبدال هذا النظام، ولكن الإشارات الأولية لهذا النظام أنه يميل إلى فرض سياسات القوى العظمى التى كانت سائدة فى القرن التاسع عشر، حيث يتفاوض هو والرئيس الروسى بوتين والرئيس الصينى جين بينغ فيما يخص المصالح المشتركة، ويتركون القوى الأكثر ضعفًا تصطف خلفهم وفى ظل ذلك يروّج ترامب أنه يحقق انتصارات من وراء هذه السياسة الجديدة، ومنها على سبيل المثال موافقة زيلينسكى على الوقف المؤقت لإطلاق النار – وهو قرار لم توافق عليه روسيا بعد- حيث يظهر ذلك أن استخدام ترامب لنفوذه على زيلينسكى كان يستحق كل هذا الجدل.
يقول نيكولاس بيرنز، السفير السابق لدى الصين فى عهد بايدن، لصحيفة «نيويورك تايمز»: إن السؤال الأهم الآن هو ما إذا كانت هذه هى خطوة تكتيكية لإعادة تشكيل سياسة أمريكا الخارجية أم ثورة على النظام القديم، وأضاف بيرنز أنه أصبح يعتقد أنها ثورة... عندما تصوّت مع روسيا وكوريا الشمالية ضد حلفاء الناتو، وعندما تهدد بالاستيلاء على أراضى حلفائك، فهناك شيء ما قد تغير جذريا، كما أصبح هناك خرق واضح للثقة مع الحلفاء قد لا تتمكن من إصلاحه أبدًا.
جاءت أول علامة على أن نهج ترامب تجاه العالم سيكون مختلفا عما كان عليه فى ولايته الأولى فى شهر يناير الماضى، فعلى مدار أسابيع، بدا ترامب أكثر عدوانية بشأن حاجة الولايات المتحدة للسيطرة على جرينلاند بسبب ثرواتها المعدنية وموقعها الاستراتيجى بالقرب من مياه القطب الشمالى التى تستخدمها روسيا والصين، كما رفع سقف مطالبه إلى قناة بنما، وظل يكرر الحاجة على أن تصبح كندا الولاية رقم 51، حتى اتضح أنه لم يكن يمزح.
وفى مؤتمر صحفى قبل أسبوعين من تنصيبه سُئل عما إذا كان سيستبعد استخدام الإكراه العسكرى أى الاقتصادى لتحقيق أهدافه فى جرينلاند أى كندا وقال «لن ألتزم بذلك، قد تضطر إلى فعل شيء ما»، المشهد كان مذهلا فى أن يقوم رئيس قادم بتهديد باستخدام أكبر جيش فى العالم ضد حليف فى الناتو. تجاهل البعض ذلك باعتباره تبجحًا من ترامب، لكن ترامب لم يقف عند ذلك حيث قال إن العالم لن يستغل بعد الآن كرم أمريكا والأمن الذى توفره لحلفائها وفيما كانت أوكرانيا أولى محطات الصدام، بعد سنوات من الدعم، وصف ترامب زيلينسكى بأنه ديكتاتور يحكم دون انتخابات، ويرى الخبراء أن هدف ترامب من ذلك هو وقف إطلاق النار ثم تطبيع العلاقات مع الروس، الأمر الذى يقلق المسئولين الأوروبيين الذين يعتقدون أنهم قد يكونون الهدف التالى لروسيا, ولعل ما يفاجئ الجميع الآن هو اعتقاد العديد من الأمريكيين وحلفائهم أن سياسة ترامب فى فترته الثانية لن تختلف كثيرا عما كانت عليه فى فترته الأولى، لكن الأمر ازداد سوءًا، وأصبحت العلاقات مع الصين وروسيا علاقات أكثر وضوحًا، حتى البعض يقول إنه ترامب يمارس سلسلة من العلاقات الشخصية بعيدة كل البعد عما يسمى «السياسة».

