رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

اجتهادُه بالعَشْر الأواخر النبى فى رمضان


21-3-2025 | 22:30

.

طباعة
بقلـم: د. ياسين عطية جمعة

تأتى الحلقة الثالثة من سلسلة مقالات «النبى فى رمضان» قبل يومٍ من دخول الليالى العشر الأواخر من هذا الشهر المبارَك؛ لذا كان من الواجب أن نستعرض معًا عملًا كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يَخصُّ به شهر رمضان المبارك عامةً والأيامَ العشرة الأخيرة منه خاصة، وهو: اجتهادُه صلى الله عليه وسلم فى العبادة فيها.

أخرج الإمام مسلم فى صحيحه، باب الاجتهاد فى العشر الأواخر من شهر رمضان، عن السيدة عائشة رضى الله عنها أنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَجتهدُ فى العَشْر الأواخر ما لا يَجتهِد فى غيره».

وهذا حديث مُجمَلٌ؛ إذ دلَّ على أن سيدنا رسول الله كان يجتهد فى العشر الأواخر، ولم يتطرَّق إلى صنيعه صلى الله عليه وسلم فى هذه العشر، وقد فصَّل هذا الإجمالَ حديثٌ آخر أخرجه الإمام مسلمٌ فى الباب نفسه، وروته أيضًا السيدة عائشة رضى الله عنها؛ قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وجدَّ، وشدَّ المئزر».

وقولُها: «يجتهد» إمَّا أن يكون من «الجَهْد» -بفتح الجيم- أي: «المشقَّة»، ويكون المعنى أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يَشقُّ على نفسه فى العبادة طلبًا لرضوان الله تعالى فى هذه الأيام، وإمَّا أن يكون من «الجُهْد» - بضمِّ الجيم - أي: «الطاقة»، ويكون المعنى أنه صلى الله عليه وسلم كان يبلغ أقصى طاقته فى العبادة.

واجتهادُ النبى فى العبادة كان دأبَه وديدنَه سواء فى رمضان أو فى غير رمضان؛ فقد أخرج البخارى فى صحيحه عن السيدة عائشة رضى الله عنها «أنَّ نبى الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطَّر قدماه، فقالت عائشة: لِمَ تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أحب أن أكون عبدًا شكورًا».

غير أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يخصُّ العشر الأواخر من رمضان بمزيدٍ من الاجتهاد فى العبادة، ولا ريب فى أن ذلك إنما مردُّه إلى خصوصيات فى هذه الأيام لا توجد فى غيرها.

ومن هذه الخصوصيات اشتمالُها على ليلةٍ هى خير من ألف شهر، وهى ليلة القَدْر، ومنها أن هذه الليالى هى ختامُ رمضان فيكون الاجتهادُ فيها حُسْنَ توديع لهذا الشهر الفضيل وابتغاءَ تجويد الخاتمة.

وإذا عُدنا إلى صنيع النبى صلى الله عليه وسلم فى هذه الليالي، كما فسَّرها حديث السيدة عائشة، تبين انحصارها فيما يلي: إحياء الليل، وإيقاظ الأهل، والجِدّ، وشَدّ المئزر.

و«إحياءُ الليل» تعبيرٌ ليس على حقيقته؛ لأن الليل لا يَموتُ حتى يُحيا، وإنما هو تعبيرٌ مجازى يقوم على تشبيه الليل الخالى من العبادة والاجتهاد فى الطاعة بـ«الميِّت» الذى لا نفع يُرجى منه ولا فائدة، فإذا جدَّ المرء فى الطاعة كان ذلك بمنزلة نفخ الروح فى هذا الميِّت فيصير حيًّا يفيض بالنفع على مَن يجتهد فيه.

أمَّا «إيقاظ الأهل» فذو دلالات متعددة؛ منها أنه تطبيق عملى لقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلكم راعٍ ومسئول عن رعيته، والرجل فى أهله راعٍ وهو مسئول عن رعيتِه»، والراعى يجب أن يوجِّه رعيتَه ويرشدهم إلى ما فيه الخير والنفع.

ومنها نَبذُ الأثرَة وحُبّ النفس؛ فالمرء الذى يحب للناس ما يحبه لنفسه يكون حريصًا على أن يشاركوه الطاعة التى مآلُها الثواب العميم من رب العالمين. ومنها أن أهل كل بيتٍ إذا انتصبوا جميعًا قيامًا إلى طاعة الله والابتهال إليه كان ذلك سبيلًا إلى أن يفيض هذا البيت بركةً ورضًا ونورًا.

وقد تبيَّن مما ذكرناه سابقًا معنى «الجِدّ»، أمَّا «شدُّ المئزر» فقد تأوَّله ابنُ قتيبة على وجهين؛ أولهما أنه يُراد به اعتزال النساء، وأن شد المئزر كنايةٌ عن ذلك، وقد ورد هذا الاستعمال فى قول الأخطل:

قَومٌ إِذا حَاربُوا شَدُّوا مآزِرَهم .. دُونَ النِّساءِ ولو بَاتتْ بأطهار

أمَّا الوجه الآخر فهو الجِدُّ فى العبادة؛ تقول: «قد شَددتُ لهذا الأمرِ مِئزرِي»، أي: «جَدَدْتُ فيه»؛ فهو على حدِّ قول الهُذَلِيِّ:

وكُنتُ إذا جَارِى دَعا لمَضُوفَةٍ .. أُشمِّرُ حتى يُنصِفَ السَّاقَ مِئزري

وأيًّا كان المعنى المراد فإن شدَّ النبى صلى الله عليه وسلم مئزرَه يؤكِّد أنه فى هذه الليالى يكون فى انصرافٍ عن الدنيا وأمورها، فى إقبال على الله عز وجلَّ بالطاعة والعبادة.

وما سبق كلُّه - من: إحياء الليل، وإيقاظ الأهل، والجِدّ، وشَدّ المئزر – وإن كان يُبيِّن لنا صنيع النبى صلى الله عليه وسلم فى العشر الأواخر، فإنه ليس فيه إشارةٌ إلى العبادات التفصيلية التى كان يغتنم بها النبى تلك الأوقات.

وهذه العباداتُ يُمكن أن يُستدلَّ عليها من عموم سُنته صلى الله عليه وسلم؛ فقد دلَّت الأحاديث على أنه كان يقوم الليل، ويُدارس القرآن، ويُكثر من الدعاء.. إلخ.

وأرى –والله أعلم– أن عدم النَّصِّ على عبادة مُعينة، أو عدم تحديد قَدْر معيَّن من العبادة، فيه فَتحٌ لأبواب الرحمة والتيسير أمام هذه الأمة، وذلك من طريقين؛ أولهما التيسير فى نوعية الأعمال؛ فأى عملٍ رأى المرء أنه يستجلب رضا الله فليُقبل عليه، وثانيهما التيسير فى كمية الأعمال؛ فسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أعلى أُمَّته همَّةً وأكثرُهم طاعةً لله وشكرًا له، ولو حُدِّد مقدارٌ معين من الأعمال لربما كان فى ذلك مشقة على الأمة، أو تيئيسٌ لهم لو لم يصلوا إلى مرتبة نبيهم فى العبادة.

ومما كان يصنعه نبينا صلى الله عليه وسلم فى هذه العشر الأواخر: الاعتكاف؛ فعن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان»، وعن عائشة رضى الله عنها «أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفَّاه الله، ثم اعتكف أزواجُه من بعده».

والاعتكاف سُنَّة مؤكدةٌ فى العشر الأواخر، مستحبٌّ فيما عداها، ويكون بلزوم المسجد مدةً لم يُحدِّدها الشرع.

وثمَّة أمر لا بد أن يضعه مَن ينوى الاعتكاف فى هذه الليالى العشر إزاء عينيه؛ هو أن الاعتكاف يجب ألا يشغله عن واجباته الدينية أو الدنيوية؛ من رعاية بيته، والقيام على شئون أهله، وأداء عمله الذى يقتات منه على الوجه الأكمل والأتم.. إلخ.

وفى ذلك يقول فضيلة الدكتور موسى شاهين لاشين –رحمه الله- فى كتابه الماتع النافع «فَتْح المُنعِم شرح صحيح مسلم»: «لا رهبانية فى الإسلام، ولم يَشرع الله للمسلمين أن ينقطعوا للعبادة ويتركوا مصالحهم الدنيوية والسعى على الرزق، ودستورُه الخالدُ: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)، ودستورُه الخالدُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِى لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)؛ فالرهبانيةُ الممنوعة والتبتلاتُ غير المشروعة هى الانقطاع للعبادة فترة من الزمان تؤثر على سير الحياة الدنيوية، شهرًا مثلًا أو شهورًا، أما الانقطاع للعبادة ليلة أو ليالى لا تخل بمطالب الحياة والتمتع بالدنيا فليس ممنوعًا، بل هو مستحب فى مواسم خاصة، يفيض الله تعالى فيها على الطائعين من سابغ فضله وواسع رحمته ما لا يفيضه فى غيرها، ومن هنا كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر من رمضان شمَّر عن ساعد الاجتهاد فى العبادة، وقام الليل، ودعا نساءه لذلك، واستحب الاعتكاف فى العشر الأواخر من رمضان، ينقطع المريد فيها فى المسجد ولا يخرج منه إلا لقضاء الحاجة، أو تحصيل الأمر الضرورى من مأكل ومشرب ونحوهما، ثم يعود فور انتهاء مطلبه، ليشتغل بذكر الله والصلاة وقراءة القرآن».

تقبَّل الله منا ومنكم الصِّيام والقيام وقراءة القرآن، وكتبنا وإيَّاكم فى تلك الليالى العشر فى الذين يُحْيون ليلَهم، ويُوقِظون أهلَهم، ويَجدُّون، ويَشدُّون المئزر.

 

 

 

أخبار الساعة