(كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ ٱلْعَذَابِ مَدًّا)
سجّل القرآن الكريم الكثير من مواقف مشركى قريش، وخاصة كبار القوم وسادتهم الذين قادوا الحرب ضد النبى صلى الله عليه وسلم، واضطهدوا المسلمين. وتحتوى سورة مريم على بضع آيات، تسجل حالة من حالات الغرور القاتل، لواحد من سادة قريش.
وقد ذهب الرواة إلى أنه أحد اثنين: أمية بن خلف أو العاص بن وائل، وكلاهما كان من عتاة الرافضين لدين الله. وتقص الآية الكريمة قصة هذا الكافر الذى صور له غروره أنه إذا كان هناك بعث وحساب، فسوف يجد فى الآخرة مالًا وولدًا، كما كان حاله فى الدنيا، ويقول الله تعالى: «أَفَرَءَيْتَ الَّذِى كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا» (77) مريم، «أَطَّلَعَ ٱلْغَيْبَ أَمِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَٰنِ عَهْدًا» (78) مريم.
ولم يذكر القرآن الكريم الشخص الذى قال هذا الكلام، ولكن هذا الشخص كان معلومًا لرسول الله، الذى خوطب بهذا الكلام. وعدم تحديد قائل هذا الكلام يمنح الآية الكريمة طلاقة المعنى، لينطبق على زمن نزول الآية، ويمتد إلى زماننا وكل زمان، فليس المهم الشخص بل القول نفسه هو المهم، وكأن قائل هذا الكلام يسير على درب صاحب الجنة، عندما قال لأخيه: «وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّى لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا» (36) الكهف.
ولأن الله سبحانه وتعالى هو واهب النعيم، فهو المنعم القادر على صيانة تلك الأشياء، أما الإنسان فيجب ألا يغتر بنعمة لا يقدر على صيانتها. وفى القرآن الكريم الكثير من الآيات التى تؤكد هذا المعنى، ومنها: «قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِى ٱللَّهُ وَمَن مَّعِى أو رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ ٱلْكَٰفِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ» (28) الملك، ومنها أيضًا: «قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاءُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ» (30) الملك.
وعندما يقول الله سبحانه وتعالى عن هذا الكافر: «أَطَّلَعَ ٱلْغَيْبَ أَمِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَٰنِ عَهْدًا» (78) مريم، فهذا تأنيب لهذا الكافر. فهل أعطاه الله عهدًا بأن يكون له فى الآخرة كما كان له فى الدنيا، أم أنه اطلع على الغيب حتى يجزم بهذا القول؟ ونجد ذات المعنى فى سورة القلم: «أَفَنَجْعَلُ ٱلْمُسْلِمِينَ كَٱلْمُجْرِمِينَ» (35) القلم، «مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ» (36) القلم، «أَمْ لَكُمْ كِتَٰبٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ» (37) القلم، «إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ» (38) القلم، «أَمْ لَكُمْ أَيْمَٰنٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ» (39) القلم.
ومعنى هذه الآيات من يضمن لهؤلاء الذين يدعونه؟ أما ذلك الكافر الذى ذكرته سورة مريم، فتأتى الآيات التالية لتؤكد كذب هذا الكافر، وأن مصيره العذاب فى جهنم: «كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ ٱلْعَذَابِ مَدًّا» (79) مريم.
و«كَلَّا» أداة نفى ما قبلها وإبطاله، أى قول ذلك الكافر: «لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا» (77) مريم، «أَطَّلَعَ ٱلْغَيْبَ أَمِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَٰنِ عَهْدًا» (78) مريم.
وجاءت كلمة «سَنَكْتُبُ» لتحمل وعدًا إلهيًا، إضافة إلى التحدى المستقبلى، ولتكون حجة على هذا الكافر، حيث سيقرأ كتابه يوم القيامة ما كتبه الله من أقواله، وكل إنسان سيقرأ كتابه يوم القيامة: «ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا» (14) الإسراء. وعندما يسجل الله سبحانه وتعالى افتراءات هذا الكافر، يكون جزاؤه: «وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ ٱلْعَذَابِ مَدًّا»، أى يزيده فى العذاب، لأن المد هو أن تزيد الشيء. ثم يختم الله تلك الآيات قائلًا: «وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا» (80) مريم، أى فى حين أن يخدع هذا الكافر نفسه وينتظر أن يزيده الله ويعطيه، يجد الجزاء الحق، وهو الأخذ منه. وكلمة «نَرِثُهُ» هنا تقابل قول هذا الكافر: «لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا» (77) مريم.
فهذا الكافر الذى يقول الكذب والباطل فى الدنيا، سيزيده الله من العذاب فى جهنم، زيادة على عذابه بكفره بالله. وكلمة «سَنَكْتُبُ» تعنى توثيق ما يقوله هذا الكافر من كذب وافتراء على الله، ليزداد فى الآخرة من أنواع العقوبات، كما ازداد فى الدنيا من الغى والضلال. وهذا بيان للمصير السيئ الذى سيصير إليه هذا الشقى وأمثاله، حيث يتم تسجيل أقوالهم، ومحاسبتهم عليها حسابًا عسيرًا، وزيادة العذاب المعد لهم، بمضاعفة قدره وإطالة أمده.
وتحمل الآية الخامسة والسبعون من سورة مريم، والتى تسبق الآيات السابقة، تحديًا مستقبليًا جديدًا فى قوله تعالى: «قُلْ مَن كَانَ فِى ٱلضَّلَٰلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَٰنُ مَدًّا حَتَّىٰٓ إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا ٱلْعَذَابَ وَإِمَّا ٱلسَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَن هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا» (75) مريم، والمعنى أن الله يمهل الكافر ويستدرجه. وإذا كان سبحانه وتعالى يعين المؤمن بالنصر، فإنه يعين الكافر بتحقيق مراده، كما فى قوله تعالى فى سورة البقرة: «فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضًا» (10) البقرة.
ومعنى «فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَٰنُ» أى فى الدنيا وزينتها. ويؤكد ذلك قوله تعالى فى سورة الشورى: «مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِى ٱلْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ» (20) الشورى، والمقصود بالعذاب فى الآية الكريمة: «حَتَّىٰٓ إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا ٱلْعَذَابَ وَإِمَّا ٱلسَّاعَةَ» (75) مريم، هو عذاب الدنيا، عندما ينصر الله المؤمنين على الكافرين، ليشعروا بالمهانة والمذلة. «وَإِمَّا ٱلسَّاعَةَ» تعنى ما ينتظر هؤلاء الكافرين من العذاب فى الآخرة. وفى الحالتين تكون النتيجة: «فَسَيَعْلَمُونَ مَن هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا» (75) مريم.
وقد رأى الكافرون فى الدنيا تحقق الوعد الإلهى، حيث انتصر المسلمون عليهم فى معارك كثيرة. وعند قيام الساعة، لن ينفع الكافر ندمه وحسرته فقد فات الأوان، وجاء موعد الحساب والعقاب: «ٱحْشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَٰجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ(22) مِن دُونِ ٱللَّهِ فَٱهْدُواْهُم إِلَىٰ صِرَٰطِ ٱلجَحِيمِ» (23) الصافات.
