يمتلئ الكون بآيات الله، التى تجعل ذوى الألباب يزدادون إيماناً ويقيناً، ورغم كثرة هذه الآيات إلا أن المشركين الذين تملك منهم عمى البصيرة، يرفضون الإيمان، ويكابرون ويمتنعون عن إعمال العقل وخشوع الفؤاد، وقد احتوت آيات القرآن الكريم على الكثير من المواجهات مع هؤلاء المشركين، وإثبات الحجة والبرهان عليهم، ومن هذه الآيات ما جاء فى سورة يونس (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴿٣١﴾ يونس.
«فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ»
وتحتوى الآية الكريمة على تكليف من الله سبحانه وتعالى للرسول صلى الله عليه وسلم، أن يسأل المشركين هذه الأسئلة شديدة المنطقية والعقلانية، ولا يسأل هذه الأسئلة إلا من كان على يقين بأن من يسألهم لو فكروا وتدبروا فى إجاباتهم، لن يجدوا إلا جواباً واحداً (فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ) .
وهذا المنطق يجعل المشركين هم من يحكمون على أنفسهم، وإضافة إلى هذا التحدى المستقبلي، الذى انطلق من اليقين بأن المشركين عندما يستمعون إلى هذه الأسئلة من الرسول الكريم، لن يجدوا إلا إجابة واحدة (فَسَيَقُولُونَ اللَّه)، إضافة إلى هذا تحتوى تلك الآية الكريمة على كثير من المعجزات سواء فى الكون أو فى الإنسان ذاته، فالسؤال الأول من يرزقكم من السماء والأرض، بمعنى من ينزل المطر ومن يخرج النبات من الأرض، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمين فى البلاغ عن الله تعالى، لذلك بدأت الآية بكلمة قل، والتى تعنى التكليف الإلهى للرسول الكريم بأن يوجه تلك الأسئلة للمشركين لكى يفند دعاواهم، ويقضى على مكابراتهم، فالرزق هو ما ينتفع به، والماء أعظم الرزق لأنة أصل الحياة، ينزل من السماء بأمر الله ليخرج النبات من الأرض بأمر الله أيضاً، وتتوالى الأسئلة
(وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ)، فالحى يخرج من النطفة والنطفة تخرج من الحي، والأشجار والنبات تخرج من الحبوب والنوى، والطائر يخرج من البيضة، وعلى المنوال نفسه يخرج الميت من الحي، ثم يأتى السؤال، (وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ)، فالله سبحانه وتعالى من يدبر كل شؤون الكون .
ومن آيات الله فى الكون إلى آياته سبحانه فى الإنسان، من خلال التساؤل
(أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ)، والسمع والبصر هما سيدا ملكات الإدراك لدى الإنسان، فاستقبال الإنسان للمعلومات يتم بالعديد من الوسائل، فالرائحة تكون بالأنف، ونعومة الأشياء باللمس، والمذاق باللسان، والسمع بالأذن، والرؤية بالعين.. الخ.
فالإدراكات الحسية متعددة، وتؤدى إلى وجود الإدراكات المعنوية، ويتحدث العلم عن الحواس الخمس الظاهرة، وهى وسائل العلم للكائن الحى وتعطى العقل المعطيات التى ترسخ فى الوجدان لتصبح (عقائد).
ومراحل الإدراك عند الإنسان، حسى ثم عقلى ثم عقدى (عقيدة)، وفى هذا المعنى يقول الله سبحانه وتعالى ( والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ) 78 النحل
والسمع والبصر أهم أدوات الإدراك، فالإنسان يرى بعينيه آيات الله فى الكون ومعجزات الرسل، ويسمع بأذنه إبلاغ الرسل عن منهج الله سبحانه وتعالى.
وقد لفت الإمام على بن أبى طالب كرم الله وجهه الناس إلى عجائب الله فى الإنسان، فقال ( اعجبوا لهذا الإنسان ينظر بشحم، ويتكلم بلحم، ويسمع بعظم، ويتنفس من خرم ) وأضاف بعضهم إلى هذا وتشم بغضروف، وتلمس بجلد، وتفكر بعجين، فالإنسان يولد وكأن مخه قطعة من العجين، التى تعمل على استقبال المعلومات من الكون وتخزينها فى هذا المخ، وهى التى ستكون ركيزة تشكيل الفؤاد بعد ذلك.
ولأن السمع والأبصار من أعظم معجزات الله، فحين نظر العلماء فى معانى الألفاظ قالوا حين تختلف النظائر فلا بد من علة للمخالفة، فالسمع آلة إدراك، والبصر آلة إدراك، فلماذا جاء الحق سبحانه وتعالى بالسمع فى سيرة الإفراد، وجاء بالأبصار فى صيغة الجمع ولم يجعل الاثنين على وتيرة واحدة، وتفسير ذلك أن الإنسان يسمع الصوت القادم من أى مكان، ولكن العين ترى من جهة واحدة، والأذن تسمع بدون عمل من الإنسان لكن البصر يحتاج إلى عمليات متعددة ليرى الإنسان ما يريد، كما أن الإنسان لا يستطيع حجب أذنيه عن سماع الأشياء، بينما يستطيع التحكم فى الإبصار بالتحرك فى اتجاهات مختلفة أو بإغلاق العين .
وقد جاء الحق سبحانه وتعالى بالسمع أولاً، لأن الأذن هى أول وسيلة إدراك تؤدى مهمتها فى الإنسان، أما العين فلا تبدأ مهمتها إلا بعد عدة أيام من الولادة، قد أكد الله سبحانه وتعالى على هذا المعنى فى أكثر من موضع فى القرآن الكريم ( أمن يملك السمع والأبصار )، فالحق سبحانه يملكها لأنه خالقها، وهو القادر على صيانتها أو تعطيلها، كما جاء فى سورة الكهف ( فضربنا على آذانهم فى الكهف سنين عددًا ) 11 الكهف، ولما ضرب الله على آذان أهل الكهف ناموا ثلاثة قرون من الزمن، ويقول الله فى آية أخرى (وجعل لكم السمع والأبصار ) 9 السجدة.. والجعل هو توجيه ما خلقه الله إلى أداء مهمته.
وتصل مواجهة الرسول صلى الله عليه وسلم مع المشركين فى الآية الكريمة من سورة يونس إلى السؤال الحاسم (وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ)، والتدبير هو عملية الإدارة لأى شىء حتى يؤدى مهمته، وبعيداً عن السمع والأبصار توجد آيات كثيرة فى الإنسان، فمن يدير حركة القلب؟، ومن يدير حركة الأمعاء لتستخلص من الطعام ما يفيد الإنسان ثم تخرج ما لا يفيد؟، ومن الذى يدير حركة الرئتين ؟، وغير ذلك الكثير من أعضاء الإنسان الداخلية والخارجية .
والحكمة من هذه الآية الكريمة فى سورة يونس، أن الرسول عندما واجه المشركين بهذه الأسئلة، أقروا بأن الله هو الذى يدبر كل شىء، ويكون السؤال الأهم بعد هذا الإقرار لماذا تعبدون غير الله ؟، وتنتهى الآية الكريمة بالسؤال الحاسم (أَفَلَا تَتَّقُونَ)، وهذا توجيه للإنسان فى كل زمان ومكان، بأن الله هو الذى خلق كل شىء،وأنزل منهجاً لحركة الحياة، وعلى هذا الإنسان أن يجعل بينه وبين الله وقاية تحميه من صفات الجلال لدى الله، وتجعله أكثر قرباً من صفات الجمال، وهذه الأسئلة ليست حكراً على مشركى قريش، ولكنها موجهة إلى كل البشر فى كل زمان ومكان، وإذا كان الإنسان على يقين من إجابة هذه الأسئلة فعليه أن يقى نفسه من عذاب النار، وهذه الآية الكريمة فى سورة يونس تؤكدها آيات أخرى مثل (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ) 87 الزخرف: (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله) 25 لقمان .
وتؤكد الآية الواحدة والثلاثون من سورة يونس، أن كل العقول والأفئدة عند كل البشر، تؤمن بيقين أن الله هو الخالق لكل شيء، ولكن مكابرة المشركين هى التى تدفعهم إلى الكفر، ومن ثم إلى عذاب جهنم.
