رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

ألوان من النقد


31-3-2025 | 02:42

.

طباعة
بقلـم: د. يمنى طريف الخولى

«ألوان النقد فى لوحة شكرى عياد: نحو فلسفة فن عربية جديدة».. كتابٌ صدر حديثا؛ ليمثل إنجازًا لافتًا للمؤلفة ريم عادل السرجاني. على أنه فى فلسفة النقد الأدبي، وليس الفن على إطلاقه. كتابٌ فى نقد النقد أو الميتانقد، حَملَ تمازجًا وتآزرًا بين الفن والفلسفة والعلم فى دائرة متحاورة الأوتار والأقطار، تحيطُ بأنطولوجيا العمل الأدبى كمنسوجٍ معرفى فى القصة الوجودية للإنسان وللثقافة وللحضارة. وفى مركز الدائرة تتألق نظرية شكرى عياد (1921-1999)، نقدية وإنسانيّة كونيّة.. وجوديّة تطوريّة، طابعها الوسطية الجدلية. إنها رؤية نسقية ذات نسيج إبستمولوجي/معرفى متوطن فى السياق الحضاري، ومنهجها هو شريعة عصر ما بعد الحداثة الإنسانية المُؤنسِنة: تأويل الظواهر أى الهِرُمَنيوطيقا.

تخوض المؤلفة فى علم الأسلوب؛ وتعرضُ أسلوبًا فريدا متوجًا بموهبة فى اشتقاق الألفاظ وجرأة فى نحت المفردات. كلمات كثيرة رأيتها لأول مرة فى هذا الكتاب وتبدو اشتقاقا طبيعيا جداً. الجملة مركبة متواصلة، حتى نجد الفصل أو على الأقل الفقرة عبارة واحدةً متراكبة. لا تستعمل ريم النقطة استعمالا حقيقيا؛ فلا تأتى اللفظة التالية للنقطة مبتدأً جملة اسمية أو فعل جملة فعلية، بل دائما تصادر واو العطف أو أى حرف أو أداة تربط الجملة بما قبلها، ولا تنتهى العبارة إلا بقضاءٍ مبرم. آلافٌ من واو العطف واجبة الحذف من هذا الكتاب الثمين، لفك اشتباك متغول يرهق القارئ.

وتمعن ريم السرجانى فى إرهاق القارئ، بتكاثر المجاز والاستعارة حتى يندر أن ترد عبارة مطابقة لمقتضى المعنى. وبدلا من أن تكون العناوين الجانبية مرشدةً هاديةً، تجعل العنوان متاهة أو تساؤلا مفتوحا لا ينذر بإمكانية الإجابة.

أتوقف بشكل خاص عند العنوان الكارثى «من الفلسفة التحليلية إلى الفكر النسقي» فى المقدمة التى تعرض الأسس المنهجية لمناهج النقد فى الأدب وفى العلم معًا. المقصود تحت العنوان المذكور هو «المنهج العلمي». فلماذا المتاهة التحليلية؟ والتحليل له عدة أشكال منهجية مختلفة. أما الفلسفة التحليلية فهى تيار عريض فى الفلسفة الإنجليزية، انطلق كثورة على مشارف القرن العشرين، لعلها أعتى تحقيق للتجريبية، التيمة المخلدة للفلسفة الأنجلوسكسونية. على أن ريم السرجانى لم تقارب الميثودولوجيا أى المنهج أو المنهجية العلمية، بل جعلت مقصدها الوضعية المنطقية، وهى إحدى مدارس تيار الفلسفة التحليلية. نال هذا الحيود من رونق الكتاب، فقد عرضت فلسفة الوضعية المنطقية بوصفها المنهج العلمى والممثل الرسمى للعلم، فى حين أنها مجرد مذهب من مذاهب فلسفة العلم، شاع وذاع فى عصره وتصدر واجهة ثقافتنا فى عصر شكرى عياد بفضل عملاق العقلية العلمية الفيلسوف زكى نجيب محمود. ثم انزوت الوضعية المنطقية وقبعت فى التاريخ المُنقضى لفلسفة العلم التى تتسم الآن بأنها ما بعد الوضعية، فلسفة زمان ما بعد الحداثة وما بعد الاستعمار. قامت الوضعية بدورها فى تاريخ فلسفة العلم وتطويرها وتنضيدها، وقد كان لابد أن تصل إلى طريق مسدود، وتنتهى بفعل تطرفها فى تجريبيتها التى قصرت الأنطولوجيا/فلسفة الوجود على دائرة عالم المادة، وقصرت المنهجية على الاستقراء والتحقق، وكلاهما تبخر من فلسفة العلم الآن.

جعلت ريم الوضعية البائدة تمثيلا للعلم ليغدو مرمى السب والتبكيت والتحقير، فهى ترى العلم ضد الفن.. تشيؤ للإنسان وتكلس للحضارة.. وأد لحيوية الثقافة، وكارثة عصرنا أنه عصر العلم.. هكذا؟!! ويبلغ السيل الزبا حين تقول إن العلم صنع الصهيونية، كلاهما صنيعة غربية زُرِعت كشوكة فاصلة فى عالمنا المعرفى!

ليس العلم ضد الفن والإنسانية، العلم أنجح وأنبل مشروع إنساني، قضاياه قابلة دوما للتعديل والتقدم، فلا يركن إلى يقين أبداً. يلعب الخيال الخلاق والاستغراق الحميم والعبقرية المبدعة دور البطولة فى رسم قصة العلم التى هى أقدم عهدا من التاريخ المكتوب، ويظل أنضر أشكال الحضارة/ حضور الإنسان العاقل فى هذا الكون. وغير صحيح أن العلم صنيعة الغرب وثمرة حداثته، العلم أعظم شأنا وأجل خطرا من أن تنفرد بصنعه حضارة واحدة. المنهج العلمى متبلورٌ فاعلٌ وفعال منذ ما قبل عهود أرشميدس والحسن بن الهيثم والبيروني.

ليس العلم فحسب الذى يزعم الكتاب أنه صناعة غربية، بل مجمل البناء المعرفي. والغرب هو العالمية المعيارية.. الواقع الثقافى والحقيقة الحضارية الماثلة. فى تأكيد عجيب للمركزية الغربية التى كانت فى عصر الحداثة الاستعماري.

عبر ما يقرب من مائتى صفحة كمقدمة، تستجمع المؤلفة كل الآليات المنهجية فى النقد ونقد النقد. وتقتصر تماما على الميراث الغربى والمفكرين الغربيين. تبحث فى أسس نقد الأدب العربى دون أى شائبة تأتينا من النقاد العرب، فقط حازم القرطاجنى يمر على استحياء، ورفرفت ذكرى عملاق الترجمة محمد عنانى أهم تلاميذ شكرى عياد.

وشكرى عياد بدوره أهم تلاميذ الشيخ الإصلاحى المجدد أمين الخولى (1895-1966)، أشرف على رسالتيه للماجستير والدكتوراه، ولقنه أصول المنهج التجديدى المهيمن على العصر الآن أى الهِرُمَنيوطيقا: فهم وتأويل النص فى سياق إنتاجه وفى أفق المُتلقى له، فتتعدد مدلولاته بتعدد آفاق المتلقين باختلاف الأزمنة والأمكنة، ويبقى النص معينًا لا ينضب أبدًا وإمكانية حياة متجددة دومًا. كانت الآلية الهِرُمَنيوطيقية منهجية مدرسة أمين الخولى فى التفسير الأدبى للقرآن الكريم التى سجل بها دخول الهِرُمَنيوطيقا الثقافة العربية لأول مرة، فيما كانت قراءة بنت الشاطئ لـ»رسالة الغفران لأبى العلاء المعري» أول تطبيق للهِرُمَنيوطيقا.

اجتمعت حول هذه المنهجية وروحها وآفاقها مدرسة الأمناء، وهم تلاميذ الخولى الذين التفوا حوله تحت شعار «جماعة الفن والحياة»، وأيضا فى أول استعمال لهذا التعبير فى الثقافة العربية. كان شكرى عياد أبرز الأمناء، ويقول فى رثائه لأمين الخولى: «حين يحدثنا عن المنهج، كنت أفرك كفى وأقول له: والله لو استعرضت بنا البحر لخضناه معك.» وكان الخولى بدوره يعتبره قطب الأمناء ويقول: «شكرى عياد ابنى البكر من العقل، صنو طريف الخولى ابنى البكر من الصلب. كلاهما من عمر واحد ومن أشمون».

تحية لهذا الكتاب، وتحية لموضوعه شكرى عياد، كلاهما مستحق للتقدير وللاحتفاء.

أخبار الساعة