لقاءات مهمة وقضايا حاسمة ومواقف مباشرة شهدتها الزيارة الرسمية رفيعة المستوى، التى أجراها الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون إلى مصر هذا الأسبوع، وفى قلب تلك المباحثات كانت الجرائم الوحشية التى يرتكبها الاحتلال الإسرائيلى فى غزة، والتى لا تزال تشهد فصولًا من العنف المستمر منذ السابع من أكتوبر 2023، لتكون هذه «المجزرة» محور جدول الأعمال، وسط إطلاق نداءات للعالم أجمع للمطالبة بوقفها الفورى، فى وقت تتصاعد فيه معاناة الشعب الفلسطينى على وقع القصف والدمار.
دبلوماسيون ومحللون سياسيون اعتبروا أن زيارة ماكرون لم تكن مجرد محطة دبلوماسية عابرة، بل لحظة فاصلة فى مسار الأحداث الراهنة، حملت فى طياتها دعوات حاسمة للسلام ووقف التصعيد فى منطقة تغرق فى مآسيها، فخلال القمة الثنائية التى جمعت الرئيسين عبدالفتاح السيسى وماكرون، ثم القمة الثلاثية التى انضم لها العاهل الأردنى الملك عبدالله الثانى، تجلت الرغبة والسعى الجاد لوقف حرب غزة، وإيجاد حلول فاعلة للنزاع الفلسطيني- الإسرائيلي، فى وقت يحتاج فيه الشرق الأوسط إلى صوت قوى ينادى بالإنسانية فى وجه الخراب.
لكن الأمر لم يقتصر فقط على الوضع فى غزة، بل حضرت ملفات الإقليم المشتعلة على جدول المباحثات، وخاصة الوضع فى سوريا ولبنان، والتهديدات بمنطقة البحر الأحمر، والاشتباكات الدائرة فى السودان، وكذلك قضية الأمن المائى لمصر، إلى جانب التطورات الإقليمية فى منطقتى الساحل والقرن الإفريقى.
الرئيس السيسى عبّر عن نتائج مباحثاته مع ماكرون بالتأكيد على تناول التطورات المتلاحقة على الساحة الإقليمية والدولية بشكل مُعمّق، وعلى رأسها الوضع المأساوى فى قطاع غزة، حيث أكدا ضرورة العودة إلى وقف إطلاق النار بشكل فورى، والسماح بإدخال المساعدات الإنسانية بشكل عاجل وإطلاق الرهائن. اللقاء الثنائى والقمة الثلاثية أكدا رفض أي دعوات لتهجير الفلسطينيين من أرضهم، مع استعراض الخطة العربية للتعافى وإعادة إعمار قطاع غزة، وتنسيق الجهود المشتركة، بشأن مؤتمر إعمار غزة، الذى تعتزم مصر استضافته بمجرد وقف الأعمال العدائية فى القطاع.
وأعاد الرئيس الفرنسى التأكيد على رفض فرنسا بشدة «التهجير القسرى للسكان أو أى عملية ضم سواء فى غزة أو فى الضفة الغربية، مؤكدا أن ذلك سيكون انتهاكا للقانون الدولى وتهديدا خطيرا لأمن المنطقة برمتها بما فى ذلك أمن إسرائيل».
وأكد الرئيس السيسى خلال مباحثاته مع ماكرون بشكل لا التباس فيه، أن تحقيق الاستقرار والسلام الدائم فى الشرق الأوسط، سيظل أمرا بعيد المنال، طالما ظلت القضية الفلسطينية بدون تسوية عادلة، وطالما ظل الشعب الفلسطينى يواجه ويلات حروب طاحنة، تدمر مقوماته، وتحرم أجياله القادمة من حقها حتى فى الأمل فى مستقبل أكثر أمنا واستقرارا.
الرئيس السيسى وماكرون بحثا سبل تدشين أفق سياسى ذى مصداقية، لإحياء عملية السلام وإقامة الدولة الفلسطينية على خطوط الرابع من يونيو عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.
المباحثات تطرقت أيضاً للتطورات فى سوريا ولبنان، حيث جرى التوافق بين الزعماء على أهمية الحفاظ على وحدة سوريا وسلامة أراضيها، وضرورة اتسام العملية السياسية خلال الفترة الانتقالية، بالعمومية وبمشاركة كل مكونات الشعب السورى، مع التشديد على ضرورة إنهاء الاحتلال الإسرائيلى للأراضى السورية، وتأكيد دعم الرئيس اللبنانى الجديد، والحكومة اللبنانية، فى جهودهما لتحقيق الاستقرار وتطلعات الشعب اللبنانى مع أهمية التزام جميع الأطراف بتنفيذ اتفاق وقف الأعمال العدائية، ومحورية الامتثال الكامل للقرار الأممى رقم «1701»، وتطبيقه دون انتقائية.
ملف المياه كان حاضرًا، حيث أكد الرئيس السيسى بالحفاظ على التعاون بين دول الحوض، وضرورة الالتزام بقواعد القانون الدولى، وتحقيق المنفعة للجميع، مع ضرورة مراعاة خصوصية الاعتماد المصرى التام، على مياه نهر النيل، كونه شريان الحياة لمصر وشعبها، والتأكيد على حرص مصر وفرنسا، على استعادة المعدلات الطبيعية، لحركة مرور السفن فى قناة السويس المصرية، وتفادى اضطرار السفن التجارية، إلى اتباع مسارات بحرية بديلة، أطول مسافة وأكثر كلفة، نتيجة الهجمات التى استهدفت بعضا منها فى مضيق باب المندب، بسبب استمرار الحرب فى غزة.
توقيت.. بالغ الأهمية والحساسية
السفير محمد حجازى، مساعد وزير الخارجية الأسبق، اعتبر أن زيارة ماكرون إلى مصر جاءت فى توقيت بالغ الأهمية والحساسية، لضرورة لفت انتباه العالم إلى الكارثة الإنسانية، التى تجرى فى قطاع غزة، والتى وصفتها فرنسا بالكارثة الإنسانية الكبرى، كما تمثل هذه الزيارة بادرة دبلوماسية رفيعة المستوى، خاصة فى ظل الظروف الراهنة.
«حجازى» أوضح أن الزيارة تتمتع بأهمية خاصة من حيث توقيتها وتاريخها، فالقمم الثنائية، وكذلك القمة الثلاثية، فضلا عن زيارة ماكرون لمدينة العريش يحمل دلالات ورمزيات عميقة، خاصة أنه تفقد المساعدات الإنسانية التى تعذر دخولها إلى قطاع غزة بسبب الحصار الإسرائيلي، والتى كانت قد تكدست عند معبر رفح، وبالتالى كانت الزيارة فرصة لإطلاق نداءات ملحة من أجل ضرورة إيصال المساعدات الإنسانية إلى القطاع المحاصر، وأكد أن اللقاء الثلاثى بين الرئيسين ماكرون والسيسى والعاهل الأردنى يعكس موقفًا قويًا من فرنسا دعمًا لمصر والأردن فى مواجهة المخططات الإسرائيلية للتهجير القسرى، وجاء هذا اللقاء ليعكس التزام فرنسا بالدعوة إلى إطلاق مسار سياسى شامل يفضى إلى إقامة الدولة الفلسطينية، وكذلك وقف المأساة الإنسانية المستمرة منذ عام ونصف العام.
وأشار «حجازى» إلى أن لهذه الزيارة دلالات سياسية وأمنية هامة، لا سيما أنها تزامنت مع اللقاء بالبعثة الفرنسية المشاركة فى بعثة الاتحاد الأوروبى لمراقبة الحدود، موضحًا أن لهذه البعثة دورًا كبيرًا فى إعادة نشر البعثات الأوروبية فى معبر رفح من الجانب الفلسطيني، بالإضافة إلى التركيز على قضية المساعدات الإنسانية.
وفيما يتعلق بالدعم الفرنسى للمبادرات الإقليمية، أوضح السفير «حجازى» أن فرنسا أكدت دعمها الكامل للخطة المصرية التى تبنتها الجامعة العربية لإعادة إعمار قطاع غزة، والتى تتوافق مع الموقف الفرنسي، كما دعمت فرنسا دعوة مصر لتنظيم مؤتمر دولى لإعادة الإعمار، خاصة فى ظل دعمها المشترك مع المملكة العربية السعودية لمؤتمر حول حل الدولتين المزمع عقده فى يونيو المقبل.
ومن باريس، يرى فرانك فارنيل، المحلل الفرنسى المتخصص فى العلاقات الحكومية والشئون الدولية، أن زيارة ماكرون إلى القاهرة تركز على تعزيز التعاون الثنائى ومعالجة القضايا الملحة فى الشرق الأوسط، بما فى ذلك تصاعد الأزمة فى قطاع غزة، كما تؤكد طموح فرنسا للعب دور أكثر أهمية فى عمليات السلام بالمنطقة، بينما تواصل مصر ترسيخ مكانتها كوسيط رئيسى فى حل النزاعات الإقليمية.
«فارنيل» أشار إلى أن الزيارة تتوافق مع سلسلة أوسع من اللقاءات رفيعة المستوى بين فرنسا ومصر فى السنوات الأخيرة، فقد زار الرئيس السيسى باريس فى أكتوبر 2021، فى حين كانت آخر زيارة لماكرون إلى القاهرة فى ديسمبر 2020، ويهدف هذا الحوار المتجدد إلى إبراز المصالح المشتركة، حيث يركز كل من مصر وفرنسا على التوافق الدبلوماسى فى الشرق الأوسط، كما تعكس الزيارة التزام فرنسا بالعمل الوثيق مع مصر واستراتيجيتها الرامية إلى تعزيز العلاقات مع القوى الإقليمية، خاصة مع استمرار تطور المشهد الجيوسياسى.
وأضاف أن الأمر الأكثر ملاحظة هو تشديد ماكرون على أهمية خطة إعادة إعمار غزة التى قدمتها جامعة الدول العربية، واعتبرها بديلاً مفضلاً عن المقترح الأمريكى، كما أكد ضرورة أن تُدار غزة بعد الحرب من قبل السلطة الفلسطينية، دون أن يكون لحماس أى دور فى هذه الإدارة، ووجه التحية لمصر على العمل المهم الذى تقوم به مصر في هذه الخطة التى تقدم مسارًا واقعيًا لإعادة إعمار غزة، وأكد أن دعم ماكرون لجهود الوساطة المصرية فى غزة يُظهر التزام فرنسا بتعزيز الاستقرار فى الشرق الأوسط، فإن هناك عدة عوامل مهمة تعيق إحراز تقدم مؤثر، من أبرزها مسألة الرهائن المحتجزين لدى حماس.
وعن دلالات زيارة ماكرون، قال «فارنيل»: إنه نظرًا لسعى فرنسا المتزايد للانخراط فى دبلوماسية الشرق الأوسط، قد تكون زيارة ماكرون إلى القاهرة بمثابة إشارة سياسية أكثر منها محفزًا حاسمًا للسلام.
فرنسا.. دولة ذات ثقل
الدكتور أيمن الرقب، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القدس، والمحلل السياسى الفلسطينى، أكد أن فرنسا، باعتبارها دولة ذات ثقل كبير فى الاتحاد الأوروبي، تعتبر عنصرًا محوريًا فى الضغط السياسى لوقف الحرب فى غزة، فرغم أن الاتحاد الأوروبى لم يمارس حتى الآن دورًا فاعلًا على الأرض لوقف جرائم الاحتلال الإسرائيلي، إلا أن موقف فرنسا يظل ذا أهمية خاصة فى هذا السياق.
وأوضح «الرقب» أن مصر تتحرك على كل الأصعدة، خاصة أن فرنسا لديها تجربة سابقة فى تنظيم مؤتمرات للسلام، وبالتالى أصبح الموقف الفرنسى ذا أهمية كبيرة، حيث إنها عضو فى مجلس الأمن الدولى ودولة محورية فى الاتحاد الأوروبي، كما أن الدعم الفرنسى لمصر والأردن فى مواجهة عمليات التهجير القسرى ورفض جرائم الاحتلال الإسرائيلي، بالإضافة إلى دعم حل الدولتين، يمثل نقطة تحول مهمة، بالنظر إلى مؤتمر السلام المزمع عقده منتصف هذا العام، حيث ستكون فرنسا من الدول المتصدرة للمشهد.
وأشار إلى أن الموقف الفرنسى قد شهد تغييرًا كبيرًا منذ بداية أحداث السابع من أكتوبر وحتى الآن، موجهًا الشكر لمصر على دورها الكبير فى إقناع فرنسا بتغيير موقفها تجاه القضية الفلسطينية، وأصبح الرئيس الفرنسى على دراية عميقة بطبيعة الصراع الفلسطينى الإسرائيلي.
نقطة تحول.. وتطور نوعى
الدكتور محمد مهران، المتخصص فى القانون الدولى وعضو الجمعيتين الأمريكية والأوروبية للقانون الدولى، أكد أن زيارة الرئيس الفرنسى تُمثل نقطة تحول مهمة فى العلاقات المصرية - الفرنسية، وتعكس تطورًا نوعيًا فى التعاون الاستراتيجى بين البلدين، وتحمل رسائل سياسية وقانونية ذات أبعاد متعددة على المستويين الإقليمى والدولي، فالتوافق المصري - الفرنسى حول القضايا الإقليمية الرئيسية، وفى مقدمتها القضية الفلسطينية وأزمة سد النهضة والأوضاع فى سوريا ولبنان، يمثل دعمًا قويًا للموقف المصرى، ويعزز فرص التوصل إلى تسويات عادلة لهذه القضايا وفقًا لقواعد القانون الدولي.
«مهران» أشار إلى أن ترفيع العلاقات المصرية-الفرنسية يعكس إدراك البلدين لأهمية التنسيق المشترك لمواجهة التحديات المتعددة التى تواجه الشرق الأوسط، وفى مقدمتها الأزمة الإنسانية فى غزة والتهديدات المتصاعدة للأمن الإقليمي، مؤكدا أن توافق الرئيسين السيسى وماكرون على رفض دعوات تهجير الفلسطينيين من أرضهم يُمثل موقفًا قانونيًا سليمًا ومتسقًا مع قواعد القانون الدولي، التى تحظر بشكل قاطع التهجير القسرى للسكان المدنيين تحت أى ظرف من الظروف.
وبشأن الموقف من سوريا ولبنان، أوضح المتخصص فى القانون الدولى، أن توافق الرئيسين المصرى والفرنسى على ضرورة الحفاظ على وحدة سوريا وسلامة أراضيها يتسق مع المبادئ الأساسية للقانون الدولي.
فضلاً عن أهمية تحقيق الاستقرار على الحدود اللبنانية واحترام سيادة لبنان على أراضيه، كما أشار مهران إلى أن تأكيد الرئيسين على أهمية استعادة المعدلات الطبيعية لحركة مرور السفن فى قناة السويس المصرية، يعكس إدراكًا مشتركًا لأهمية تأمين طرق التجارة الدولية، وضمان استقرار الاقتصاد العالمي، فى ظل تأثر حركة الملاحة فى البحر الأحمر بسبب التوترات الناجمة عن استمرار الحرب فى غزة، مشددا على أن الشراكة الاستراتيجية بين البلدين تمثل إطارًا قانونيًا متكاملًا للتعاون فى مختلف المجالات، وتؤسس لالتزامات قانونية متبادلة تعزز المصالح المشتركة.


