تحركات اقتصادية متلاحقة مرت على العالم بصعوبة خلال الأيام القليلة الماضية، أول أبريل 2025 أعلن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب عن مجموعة من القرارات الجمركية التى أثارت جدلاً واسعاً فى الأوساط الاقتصادية العالمية. فقد قرر رفع الرسوم الجمركية على الواردات الصينية إلى 125 فى المائة، مع تنفيذ هذا القرار فوراً، بينما أعلن عن تعليق مؤقت لمدة 90 يوماً للرسوم الجمركية الجديدة على أكثر من 75 دولة أخرى، مع تقليل الرسوم المتبادلة إلى 10 فى المائة خلال هذه الفترة، ثم قرر فى 12 أبريل 2025 إيقاف الرسوم الجمركية على بند الإلكترونيات والهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر الواردة من الصين.
ومن توابع قرارات ترامب بزيادة الرسوم الجمركية: انهيار أسواق المال والبورصات الأمريكية، والتى حققت خسائر تتجاوز 8 تريليونات دولار. وانخفضت الأسهم الأوروبية متجهة لتسجيل خسارة أسبوعية حادة، وهى أكبر خسارة أسبوعية منذ يونيو 2022، بنسبة تجاوزت 4.4 فى المائة، كما تراجعت الأسهم الأوروبية مسجلة أكبر خسارة يومية فى 8 أشهر ماضية، خاصة فى ظل قلق المتعاملين من احتمالات حدوث ركود عالمى بعد إعلان الرئيس الأمريكى ترامب عن فرض رسوم جمركية واسعة على شركاء تجاريين، خاصة الصين وكندا والمكسيك والدول الأوروبية، وتراجع قطاع البنوك فى أوروبا بـ 3.8 فى المائة.
ولا شك أن مخاوف المستثمرين تتزايد من ركود اقتصادى عالمى بعد إعلان الرئيس ترامب فرض رسوم جمركية واسعة النطاق على شركاء تجاريين رئيسيين، نتيجة مخاوف من تأثيرات سلبية على الأسواق المالية، حيث شهدت أسواق الأسهم تراجعاً حاداً بعد إعلان الرسوم، مما دفع الإدارة الأمريكية إلى إعادة النظر فى سياستها الجمركية لتجنب كارثة محتملة فى سوق السندات.
وبعد إعلان ترامب عن تعليق الرسوم الجمركية لمدة 90 يوماً، شهدت الأسواق المالية تحسناً ملحوظاً، حيث ارتفعت مؤشرات الأسهم الأمريكية، وصعدت أسعار النفط، كما تعافى الدولار الأمريكى أمام عملات الملاذ الآمن مثل الين والفرنك السويسري.
ولا شك أن هناك مخاوف من أن عودة الرسوم مرة أخرى قد تؤدى إلى حرب تجارية متصاعدة تكبح النمو الاقتصادي، فى أعقاب الرسوم الجمركية العالية التى أعلن عنها ترامب، لا سيما أن هناك حالة من التوترات الاقتصادية يشهدها العالم بسبب الجمارك التى أعلن ترامب فرضها على العديد من الدول، والتى تضمنت 18 دولة عربية، أهمها مصر والسعودية والإمارات والمغرب والأردن وسوريا وليبيا والعراق والجزائر وتونس وغيرها.
وكانت خطوة ترامب برفع الرسوم الجمركية جزءاً من استراتيجية الإدارة الأمريكية للحد من العجز التجارى وتعزيز التصنيع المحلي، واعتبر ترامب أن تلك الإجراءات ستؤدى إلى عودة الوظائف والمصانع إلى الولايات المتحدة، بحجة البدء فى شراء المنتجات الأمريكية، وإن كانت هذه الخطوة ستؤدى إلى زيادة التضخم فى أمريكا وأيضاً إلى توتر التجارة العالمية وسلاسل الإمداد على مستوى الأسواق العالمية.
كما أن قرارات ترامب الجمركية جاءت فى وقت يشهد فيه الاقتصاد العالمى هشاشة شديدة بعد سنوات من التعافى البطيء من جائحة كورونا، وتداعيات الحرب فى أوكرانيا، وتذبذب أسعار الطاقة والغذاء. وبالتالى فإن هذه القرارات لم تُحدث فقط اضطراباً فى الأسواق المالية، بل زادت من حالة عدم اليقين لدى المستثمرين وصناع القرار الاقتصادي، مما قد يدفع العديد من الشركات الكبرى إلى تأجيل خطط التوسع والاستثمار، ويؤثر سلباً على مستويات التشغيل والنمو.
ومن المؤكد أن ما تشهده الأسواق العالمية اليوم ليس مجرد تقلبات مؤقتة، بل هو انعكاس لتحولات جذرية فى طبيعة العلاقات التجارية والاقتصادية بين القوى الكبرى، خاصة بين الولايات المتحدة والصين. فالتصعيد فى استخدام الرسوم الجمركية كأداة للضغط السياسى والاقتصادى يعكس تراجعاً فى الالتزام بقواعد منظمة التجارة العالمية، ويفتح الباب أمام المزيد من السياسات الحمائية التى قد تؤدى إلى تفكك النظام التجارى المتعدد الأطراف الذى ساد لعقود.
وفى هذا السياق، من المهم أن ندرك أن تأثير هذه السياسات لا يقتصر فقط على العلاقات الثنائية بين الدول الكبرى، بل يمتد ليشمل الدول النامية والصاعدة، التى تجد نفسها مجبرة على التكيف مع بيئة تجارية أكثر تعقيداً وتقلّباً، وهو ما يتطلب من هذه الدول، ومن ضمنها مصر، تنويع شراكاتها الاقتصادية، وزيادة الاعتماد على الإنتاج المحلي، والبحث عن أسواق جديدة للصادرات، مع تحسين بيئة الأعمال لجذب المزيد من الاستثمارات.
ومن المنتظر أن تُعيد كبرى الشركات العالمية حساباتها فيما يتعلق بسلاسل التوريد، بحيث تتجه نحو توزيع الإنتاج على أكثر من منطقة جغرافية لتقليل الاعتماد على دولة واحدة، وهو ما يُعرف بمفهوم «إزالة التمركز الصناعي»، مما يفتح فرصاً لدول مثل مصر للاستفادة من هذا التحول عبر تقديم حوافز استثمارية فى قطاعات مثل الصناعات التكنولوجية والغذائية والطاقة المتجددة.
وفى ضوء هذه التحديات، يصبح التنسيق الدولى أكثر ضرورة، سواء من خلال مجموعة العشرين أو المنظمات المالية العالمية، لضمان استقرار الأسواق والحد من موجات الركود التضخمي، والعمل على وضع خارطة طريق لتقليل حدة الأزمات الاقتصادية القادمة.
ويُلاحظ أيضاً أن بعض الدول بدأت تبحث عن بدائل استراتيجية، سواء من خلال تنويع أسواقها التجارية أو تقليل الاعتماد على الاقتصاد الأمريكي، مما قد يؤدى على المدى المتوسط إلى إعادة تشكيل النظام التجارى العالمي، ومن أبرز ردود الفعل ما أعلنته الصين عن نيتها تعزيز العلاقات التجارية مع الدول النامية، وإنشاء تكتلات تجارية إقليمية جديدة لتعويض الفاقد من السوق الأمريكي.
وفى ظل هذا الواقع الجديد، تزداد أهمية التنسيق الدولى بين البنوك المركزية لمواجهة موجات التضخم المتوقعة، كما يجب على الحكومات وضع خطط طوارئ اقتصادية لمواجهة أى تباطؤ مفاجئ فى النمو أو تراجع فى الإيرادات العامة، مع ضرورة حماية الفئات الأكثر تأثراً من آثار الركود التضخمى المتوقع.
كما أن الموجة التضخمية التى سيشهدها الاقتصاد الأمريكى بسبب قرارات ترامب، خاصة على الواردات الصينية التى قامت أمريكا برفع الرسوم الجمركية عليها بنسبة 125 فى المائة ثم تم استثناء الأجهزة الإلكترونية والهواتف الذكية، وقامت الصين بفرض رسوم جمركية عقابية على الواردات الأمريكية بنسبة 84 فى المائة، ستجعل البنك الفيدرالى الأمريكى يتمهل فى اتجاه خفض الفائدة على الدولار الأمريكى لمواجهة التضخم المحتمل، مما سيجعل الأسواق العربية – ومن ضمنها مصر – أيضاً تتمهل فى خفض الفائدة، خاصة بعد رفع سعر البنزين والسولار والذى قد يؤدى إلى زيادة التضخم البالغ حالياً 12.8 فى المائة فى حدود 1.5 فى المائة إلى 2 فى المائة أو تخفيض بطيء لأسعار الفائدة، مما يعنى زيادة الأعباء على الموازنة العامة للدولة.
كما أن أسعار الذهب عالمياً ومحلياً من المتوقع ارتفاعها بسبب حالة التوترات الاقتصادية العالمية التى أحدثتها قرارات ترامب الجمركية، بسبب انهيار أسواق الأسهم والسندات، ولجوء المستثمرين والبنوك المركزية إلى الإسراع فى شراء الذهب، حيث وصل سعر أونصة الذهب إلى 3184 دولاراً فى البورصة العالمية (العقود الحالية)، حيث ارتفعت أسعار الذهب بنحو 3 فى المائة فى يوم واحد محققة أعلى مستوياتها التاريخية، نتيجة لانخفاض قيمة الدولار وتزايد التوترات فى الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، ومرشحة لتتجاوز 3300 دولار خلال الأسابيع القليلة القادمة، خاصة فى ظل التوترات بين أكبر قوتين اقتصاديتين فى العالم «أمريكا والصين».
وقد ارتفع الطلب العالمى على الذهب، بما فى ذلك التداول خارج البورصة، بنسبة 1 فى المائة إلى مستوى قياسى مرتفع بلغ 4974.5 طن فى عام 2024 بأكمله، مدفوعًا بزيادة مشتريات البنوك المركزية والاستثمارات.
من أخطر الأزمات الاقتصادية المحتملة فى المرحلة القادمة، هى الركود التضخمى العالمي، خصوصًا فى ظل استمرار الحرب التجارية والتوترات الجيوسياسية حول العالم، والركود التضخمى (Stagflation) هو حالة نادرة وصعبة من الأزمات الاقتصادية، حيث يتزامن فيها:
• ركود اقتصادى (تباطؤ أو انكماش فى النمو)
• ارتفاع فى معدلات البطالة
• ارتفاع فى معدلات التضخم فى نفس الوقت
وهذا عكس القاعدة الاقتصادية المعتادة التى تقول: «عندما يبطئ الاقتصاد - تنخفض الأسعار»، لكن هنا العكس يحدث.
والأسباب الحالية التى قد تؤدى إلى ركود تضخمى عالمى متوفرة، وأولها الحرب التجارية (مثل الصراع بين الصين وأمريكا، والعقوبات الغربية على روسيا، والقيود على سلاسل الإمداد)، تليها التوترات الجيوسياسية (فى البحر الأحمر، أوكرانيا، الشرق الأوسط)، إضافة إلى ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء عالميًا، مما يرفع تكلفة الإنتاج والنقل، كذلك ارتفاع أسعار الفائدة العالمية لمحاولة كبح التضخم، مما يؤدى إلى تباطؤ النمو.
المدى الزمنى المتوقع لحدوث الركود التضخمى قصير إلى متوسط الأجل (6 – 18 شهرا) فى حال استمرار العوامل السابقة بدون حلول سياسية واقتصادية، قد نشهد دخول بعض الاقتصادات فى حالة ركود تضخمى فعلى، بدليل أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى بدآ يُظهران إشارات تباطؤ فى النمو بينما التضخم لا يزال فوق المستهدف.
الركود التضخمى من أصعب وأندر الحالات الاقتصادية التى مر بها العالم، لأنه يجمع بين ركود اقتصادى (تباطؤ أو انكماش فى النمو) وتضخم مرتفع (ارتفاع الأسعار)، وهو وضع يربك السياسات الاقتصادية لأنه يصعّب على الحكومات استخدام أدوات تقليدية لحل المشكلة.
ومن أبرز التجارب العالمية التاريخية للركود التضخمي:
• الولايات المتحدة خلال أزمة السبعينيات (1973–1980) بسبب أزمة النفط الأولى عام 1973 بعد حظر الدول العربية للنفط عقب حرب أكتوبر، وأيضاً أزمة النفط الثانية عام 1979 بعد الثورة الإيرانية.
• البرازيل فترة الثمانينيات والتسعينيات (الركود التضخمى التضخم المفرط) بسبب ديون خارجية ضخمة.
• الأرجنتين 2001 وحتى الآن (دورات من الركود التضخمي) بسبب ضعف الثقة فى السياسات النقدية.
وصانعو السياسات النقدية يجدون أنفسهم فى موقف يصعب التعامل فيه مع هذا المزيج (ركود وتضخم فى نفس الوقت)، لأن محاولة التعامل مع أحدهما ربما تؤدى إلى تفاقم الآخر.
ويُعتبر الركود التضخمى مزيجاً من ثلاث سلبيات «تباطؤ النمو الاقتصادي، وارتفاع معدلات البطالة، وارتفاع الأسعار، وهو مزيج لا يفترض أن يحدث فى منطق الاقتصاد، ولا ينبغى أن ترتفع الأسعار عندما يكون لدى الناس أموال أقل للإنفاق».
ففى حالة الركود، تتجه البنوك المركزية إلى خفض الفائدة وتقديم حوافز لإنعاش وتحفيز النمو الاقتصادي، بينما فى حالة التضخم، تلجأ البنوك المركزية لرفع الفائدة وتشديد سياستها النقدية.
ورغم أن التقارير الصادرة عن المؤسسات الدولية العالمية تتباين فى تقييمها للوضع، حيث إن بعضها، مثل وكالات التصنيف الائتمانى «فيتش» و«موديز» وغيرهما، يتأثر بالاعتبارات السياسية إلى جانب العوامل الاقتصادية، إلا أنه فى حال استمرار ارتفاع معدلات التضخم فى الولايات المتحدة الأمريكية جراء القرارات المتخذة لمدة ستة أشهر، فمن المرجح أن يدخل الاقتصاد فى حالة ركود.
وأعتقد أن الاقتصاد المصرى ما زال قادراً على الصمود وتجاوز هذه المرحلة الصعبة، فمصر مثلها مثل العديد من الاقتصادات العالمية، تواجه تحديات اقتصادية ناجمة عن التوترات الجيوسياسية فى منطقة الشرق الأوسط، خاصةً فى ظل الحرب الدائرة فى غزة والضربات التى تتم فى جنوب اليمن من أمريكا للحوثيين، والتى تؤثر على حركة الملاحة فى البحر الأحمر وقناة السويس. ومع تصاعد التوترات السياسية فى المنطقة، تأثرت حركة الملاحة بشكل كبير وخسرت القناة أكثر من 50 فى المائة من إيراداتها، وعلى الحكومة التوسع فى خطة جذب الاستثمارات وزيادة الإنتاج والصادرات لتقليل عجز الموازنة العامة.
وتبقى كلمة: «يجب علينا كمواطنين فى أوقات الركود التضخمي، ألا ندخر ما يتبقى بعد الإنفاق، ولكن يتم إنفاق ما يتبقى بعد الادخار. وإذا لزم الشراء فى أوقات الركود التضخمى فيكون بالتقسيط، كما لا نشترى ما لا نحتاجه، وإلا فسيأتى الوقت الذى نضطر فيه لبيع ما نحتاجه».

