كان أشهر يتيم يُلقى بنفسه في أحضان أي أسرة تعوضه عن غياب أبويه. كان صاحب أحلى نبرة عربية في الغناء يحترم عبدالوهاب، ويُحيِّره بليغ حمدي ويمتثل لشروط الموجي، ويقابل كمال الطويل بربطة عُنُق. كان العندليب عاشقاً فاشلاً ويغار بجنون على حبيبته. كان ينتصر على المرض بالغناء، ويهزم الموت، ويعُب الحياة عباً.
كتاب «حليم» من أمتع الكتب التي قرأتها في الأيام الأخيرة من حياته. كتاب عن عبدالحليم حافظ أسطورة زماننا الكُبرى، وكاتبه هو المرحوم مفيد فوزي. وصاحب حتى المقدمة التي كتبها لهذا الكتاب يُمكن أن أذكر اسمه بكلمة المرحوم رغم أنه حيٌ في وجداني حتى الآن.
المقدمة عنوانها: إنه الحب العظيم. وكاتبها هو الدكتور يوسف إدريس، مؤسس القصة القصيرة فى أدبنا العربى المعاصر. كتب يوسف إدريس يقول:
- حين أرسل إلىَّ الصديق الفنان مفيد فوزى مخطوطة هذا الكتاب لأكتب مقدمته، أدركت على الفور صعوبة المهمة، فليست هذه أول مقدمة أكتبها لكتاب يعتز به كاتبه. ولكنها مقدمة لكتاب عن عبدالحليم حافظ.
وعبدالحليم حافظ فى أذهاننا مزاج مختلط من ذكريات عمر وصبا، بل وعصرٍ بأكمله. فليس صوت العندليب الإلهى وحده. ولا روعة أغانيه ولا حياته. ذلك الفتى الرقيق القادم من أعماق البحر. بحر ريفنا بفقره وأمراضه وانعدام الجمال فيه. ولكن حليم جسَّد فى حياتنا ثورة، وكان هو نفسه قائد ثورة لتحديث الأغنية الفردية وذوق الاستماع الجديد.
وضعت الكتاب المخطوطة فوق مكتبى لا أجرؤ على فتحه. لست أدرى لِمَ، ولكن السبب الظاهر وحده كان فى «عز معمعة رهيبة». تسبب فيها حاكم إحدى الدول العربية. لم يكن الكتاب عادياً، ولا قصة حياة يرويها كاتب عن فنان موسيقى، ولكنى غرقت تماماً بين تلك العلاقة النادرة بين مفيد وعبدالحليم. وهى علاقة لم أكن أعرف عنها شيئاً مطلقاً. وفوجئت بأدق تفاصيلها بالكتاب. إنها قصة حب نادرة جمعت بين قلبين شابين يحلمان بالفن والمجد.
من هنا وإلى أن عاد حليم فى نعشٍ فى طائرة من لندن تمضى قصة الحب، آسف على التعبير، تمضى رسالة الحب. فهذا الكتاب أطول رسالة حب كتبها فنان لفنان، وكتبها لكل ما يملك من ذرة قُدرة وإخلاص فى التعبير.
ويعترف الكاتب أنه عرف عبدالحليم حافظ فى الستينيات بعد أن كان أصبح النجم الأوحد فى سماء الغناء. وإن كنتُ – يعترف المؤلف – أحسستُ بعد الانتهاء من الكتاب أننى لم أعرف عن عبدالحليم حافظ سوى حنجرته وذكائه. وقد كنت أوقن أن عبدالحليم حافظ هو صانع ظاهرة عبدالحليم. وإنما حظ مصر وحظه أنه وجد موسيقيين فى قلوبهم تضطرم ثورة التغيير من الكلاسيكية التعبيرية إلى الانطباعية الجديدة بإيقاعٍ جديد.
عصر عبدالحليم
وقد تهيأ لعبدالحليم حافظ ثلاثة من أنبغ ما أنجبت مصر من الموسيقيين، وبمدارس مختلفة. فكمال الطويل أدخل الرِتم السريع وإيقاع العصر بحيث جعل من الموسيقى الشرقية موسيقى إيقاعية مصرية.
ومحمد الموجى عبقرى التيمات أبدع شرارات موسيقية خالصة المصرية فى تلحينه للتواشيح. أما بليغ حمدى فقد كان السواح الفنان فى مواويلنا وموسيقانا الشعبية تلك التى طورها وغير من إيقاعها ليشدو بها عبدالحليم.
ويعترف المؤلف أن دور هؤلاء كان أكبر من دور عبدالحليم نفسه. ويكتب يوسف إدريس أنه ثبت له من قراءته لهذا الكتاب أن عبدالحليم لم يكن مؤدياً صاحب صوت رائع. لكنه كان قائداً لهذا الفريق الموسيقى الجديد، ومعهم المايسترو أحمد فؤاد حسن وفرقته الماسية.
العقل المفكر
كان عبدالحليم هو العقل المفكر المبتكر الذى يستطيع أن يُشعل حماس أصدقائه: الطويل والموجى وأحمد فؤاد، بل استطاع أن يشعل حماس أكبر أستاذ للموسيقى العربية الحديثة: محمد عبدالوهاب. فيُلحِّن له على منهجه منهج عبدالحليم وعلى هواه.
ويكمل يوسف إدريس فى مقدمته المهمة: أعتقد أن المكتبة العربية حين تضم كتاب «حليم». تضم فى الوقت نفسه نموذجاً فى الكتابة عن الفن والفنانين. الرؤية عن حبٍ عميق، حب يشمل الفنان وأحلامه وأسرته ومنشأه وحتى أخطاءه.
ويختم يوسف إدريس مقدمته الفريدة والمهمة بقوله: لقد كنت أعتقد أنى أقدر الصديق الكاتب حق قدره – وهو يقصد مفيد فوزى – ولكن هذا الكتاب رفع تقديرى له إلى درجة الحب لقلبه ونزواته فى اختيار ما يُحب وما لا يُحب. وحتى بعض أخطائه التى أختلف معه فيها.

العندليب و«الست»
يقول عبدالحليم حافظ لمؤلف الكتاب: كنت أحترم أم كلثوم، كما ينطوى ملايين الناس على احترام الهرم الأكبر. ويُكمل المؤلف أنه كان فيروزى الهوى. ومع ذلك أدرك أنه كان مُخطئاً، وعندما كان يستمع لأم كلثوم وهى تشدو فكان يطرب ويهيم مع العندليب وهو يغرد فأبكى. كان عبدالحليم يخاطب جهازى العصبى وكان يؤرخ لحياتنا العاطفية. وعندما رحل سقط المؤرخ وتوقف التاريخ العاطفى.
أول مرة يعترف عبدالحليم أنه رأى فيها أم كلثوم كانت فى بيت الدكتور سيد كريم فى المعادى. مهندس مصرى سبقته سمعته. وهو فنان حتى النخاع وبيته كان صالوناً أدبياً وفنياً. أطلق عليه كامل الشناوى يوما ما: بيت النغم.
فى ليلة من الليالى اتصلت أم كلثوم بالدكتور سيد كريم وقالت له إنها فى زيارة لأصدقاء بالمعادى جنبكم هنا، وعايزة أفوت آخد معاك شاى أنت ودرية مراتك. فقال لها: يا مرحب يا مرحب. وتصادف أن كان عبدالحليم يزور والده الروحى سيد كريم الذى كان يُعلم ابنته شاهندة العزف على العود. فلما عرف عبدالحليم أن أم كلثوم فى الطريق دق قلبه بشدة وصفف شعره على طريقته. وسأل الدكتور سيد إن كان عنده كولونيا.
قمتان تسهران معاً
يحكى مفيد فوزى أن أم كلثوم جاءت، وطرح الدكتور سيد كريم اسم عبدالحليم، فقالت سيدة الغناء:
- «والله يا سيد أنا سمعت عن الولد دا كويس ويمكن سمعت صوته، لكن ماركزتش فيه، أنت تعرفه؟»
واضطر أن يُعرِّفها بوجود عبدالحليم فى بيته. وإذا بعبدالحليم يُغنى أمامها: أكاد أشك فى نفسى. وتوقّف الغناء وأم كلثوم فى حالة ذهول. ويسأل الدكتور سيد حليم:
- «نفسك تطلب إيه؟»
وفجأة يعود عبدالحليم يغني:
- وحقك أنت المُنى والطلب.
وانفجرت أم كلثوم ضاحكة وقالت:
- «دا عبدالحليم ولا عفريت عبدالحليم؟»
فقال لها عبدالحليم وهو يتقدم نحوها وقلبه يكاد ينخلع:
- «أنا يا فندم عبدالحليم بلحمه وشحمه».
قالت أم كلثوم :
- «أنا عايزة عبدالحليم بلحمه، مليش دعوة بشحمه».
وضج الجميع بالضحك. واعتبر عبدالحليم أن هذا اللقاء كان فرصة ليقدم أوراق اعتماده لدى هذه الملكة. خاصة أنه كان يُحب أن يستمع دائماً لأغانى عبدالوهاب وأم كلثوم، ولم يفكر مرة فى التمتمة بأغانيه. صحيح أنه درس الموسيقى ولكنه تعلَّم فى مدرسة عبدالوهاب وجامعة أم كلثوم.
كان عبدالحليم يُسمى أم كلثوم الست. وكان قد أطلق اسم الست على ثلاث سيدات عرفهن: أم كلثوم، ونهلة القدسى، وفاتن حمامة. وكان هذا اللقب يحوى ضخامة الشخصية والمكانة الاجتماعية والقيمة المضافة إلى الفن والحياة.
المُطربة الكبيرة والمُطرب الشاب
دخل حليم مباشرة لأم كلثوم، قبَّل يدها وانحنى أمامها. قالت أم كلثوم لعبدالحليم بعد أن عانق فرسان السهرة وسمعوا طرقعات القُبُلات:
«اقعد جنبى هنا يا ولد»
وجلس حليم على الأرض بجوار ثومة. وكان صامتاً لأول مرة. مع أنه فى هذا الصالون بالذات يتحرك كالنحلة. وكان يرى المجتمع بأذنيه كما وصفه كامل الشناوى. قالت أم كلثوم لعبدالحليم:
- «انت حتقعد مستربع؟ هات العود».
وأمسك عبدالحليم العود فى ثقة وقال لأم كلثوم:
- «تحبى تسمعى ايه من أغانيكى يا ست الكل؟»
قالت له أم كلثوم:
- «يعنى حافظهم كلهم يا خاى؟»
«طيب قول: يا ظالمنى».
وبدأ عبدالحليم يغنى وأم كلثوم تتأمله وتدندن فى سرها معه، وعبدالحليم يعيد ويزيد وأم كلثوم مبهورة. وعندما انتهى عبدالحليم قامت أم كلثوم وطبعت على جبينه قبلة.
قال كامل الشناوى:
- «دى وسام يا عبدالحليم من أوسمة الدولة».
وقال الشاعر صالح جودت ضاحكاً:
- قُبِلت أوراق اعتمادك يا سعادة السفير.
وهكذا تم الاعتراف بعبدالحليم حافظ كمطربٍ كبير. كانت أيام لها أبطالها ونجومها، لم يعد لنا سوى أن نتذكرهم ونحكى عنهم وعن أحوالهم. ونتساءل: متى تُصبح لنا أيامنا التى تُشابه تلك الأيام الجميلة التى ولت ولم تعد؟