حينما تحدثت فى المقالات السابقة من هذه السلسلة عن تطبيق العدالة الضريبية، فإن القصد لم يكن ينصب فقط على منْ يدفع الضريبة، بل يمتد إلى: منْ يُقدّر؟ وعلى أى أساس؟ وهل توجد معايير واضحة وموحدة تحكم عملية الفحص والتقدير، أم أن الأمر يظل رهين الاجتهادات وتفاوت المعاملة بين كيان وآخر؟
فليس خفيا على أحد أنه لا يزال التقدير الضريبى فى حالات كثيرة غير محكوم بإطار منهجى ثابت، فبينما تخضع منشآت صغيرة ومتوسطة لفحص دقيق وربما ميدانى يمتد لأشهر، تحظى كيانات أخرى ـ منها بعض الشركات المملوكة للدولة أو العاملة ضمن أطر سيادية -، بتسويات إجرائية أو إعفاءات تُدار إداريًا دون وضوح كافٍ فى الأسس أو المبررات.
والحديث هنا لا يتعلق باتهام أو طعن فى النوايا، أو يحمل إشارات لتجاوزات، بل يشير إلى ضرورة وجود معايير معلنة ومفعّلة لتقييم الضريبة وتطبيقها، بما يضمن العدالة والتوازن بين الحصيلة والمنافسة، خاصة أنه لا ينبغى أن يُفسَّر الامتثال الضريبى على أنه عبء زائد على الكيانات المنظمة فقط، فى حين يُنظر إلى التسويات غير المعلنة باعتبارها امتيازًا ضمنيًا لمن يستطيع التفاوض عليه.
أعلم صعوبة تطبيق ما تتضمنه أسس العدالة الضريبية على تلك الكيانات مرة واحدة، لكن هناك نماذج دولية لها تجارب جديرة بالدراسة ويمكن الاستفادة منها، ففى نماذج كالمكسيك وتركيا، جرى تجاوز هذه الإشكاليات عبر ربط التقديرات والإعفاءات بمعايير كمية قابلة للقياس - مثل نسب التشغيل المحلي، أو درجات الإفصاح الضريبى - دون النظر إلى صفة المالك أو القطاع، وقد ساهم هذا التوجه فى تعزيز الشفافية ورفع نسب الامتثال الطوعي، وخفّض مستويات الطعن فى التقديرات بنسبة ملموسة.
إشكالية أخرى تمس مسألة العدالة فى التطبيق، وهو أن الفحص فى مصر لا يزال يعتمد إلى حد كبير على التقدير الفردي، سواء فى صياغة الملاحظات أو فى حساب الربحية التقديرية، وغالبًا ما تصدر نتائج الفحص دون مذكرة تحليلية واضحة.
وبالطبع هذا النمط لا يوفر للممول أرضية قانونية للطعن أو النقاش، كما أنه لا يسهّل عملية المراجعة الداخلية داخل مصلحة الضرائب نفسها، أو يوضح حتى أسباب تفاوت التقديرات بين الكيانات الخاضعة للضريبة، كما أنه قد يوفر بيئة خصبة للرشاوى الفردية.
وفى مقابل هذا الوضع فى مصر، فقد تبنّت دول مثل كولومبيا نظام مراجعة داخلية قائما على دليل فحص موحّد، يربط بين طبيعة النشاط ونطاق الفحص، ويُلزم الجهات الفاحصة بتوثيق كل خطوة رقمياً.
وهذه الممارسات لا تحصّن الجهاز فقط من الأخطاء أو تصلح مسألة التفاوت فى التقديرات، بل تحسّن جودة البيانات، وتمنح الممول شعورًا بأن عملية الفحص تُدار بمهنية وليس بعلاقات، وتسد منافذ فساد كثيرة فى المنظومة.
فالضريبة العادلة لا تُبنى على الإخضاع فقط أو تنهمك فى الحد الأقصى الممكن تحصيله، بل على ما هو منصف، وثابت، ومفهوم، وإلا ستؤدى الممارسات المتباينة إلى هروب قسرى نحو الاقتصاد غير الرسمي، كما أن هذا الإصلاح الضريبى المنشود يتطلب حتما فى مراحله المتقدمة أن يعكس القدرة الحقيقية للنشاط على الدفع، وليس فقط قدرته على الامتثال الشكلي.
وتستطيع الدولة من خلال أدوات مثل الفاتورة الإلكترونية، والربط البنكي، ونظم الإفصاح الموحدة، أن تنتقل تدريجيًا إلى نموذج تقدير أقرب للحقيقة يركز على المخاطر، والملفات ذات الاحتمالية العالية للتلاعب، بدلًا من استهلاك الطاقات فى فحص عشوائي.
ويعد النموذج الإستوني، إحدى أنجح التجارب الرقمية، الذى استطاع من خلال الشفافية الكاملة وربط الفحص بآلية مخاطرة معلنة، أن يقلل زمن التقدير والفحص إلى أقل من 5 أيام فى المتوسط، مع معدلات اعتراض لا تتجاوز 7 فى المائة.
ختاما، فالممول ما لم يشعر أن التقدير يتم وفق معادلة مفهومة، وبعيدًا عن الهوية القانونية للكيان أو حجمه النسبى داخل الاقتصاد، فإن الثقة ستبقى مجتزأة، والامتثال مرهون بالإكراه لا بالقناعة.
يعنى ذلك أن توحيد معايير الفحص، وربط التقدير برقابة مهنية مستقلة وبأدوات رقمية تقلل العنصر البشري، لم يعد ترفًا تنظيميًا، بل شرط أساسى لنضج المنظومة الضريبية، وتحقيق هدفها الأسمى: إيراد عادل، ضمن بيئة تنافسية متكافئة، لا تميّز بين ممول وآخر إلا بمقدار التزامه.
فى الحلقة السادسة، ننتقل إلى سؤال أكثر عمقًا: هل يمكن ربط الضريبة بما يتلقاه المواطن من خدمات؟ وكيف يمكن استعادة “العقد الضريبي” بين الدولة والممول؟
