الأحد 16 فبراير 2025

مقالات

وداعًا.. حسن حنفي

  • 26-10-2021 | 11:40
طباعة

رحل عن عالمنا الدكتور حسن حنفي الإنسان والمعلم، رحل الصديق والأستاذ؛ أما فكره فسيظل باقيًا مدى الدهر.. فكره أبدًا لن يغيب، سيظل نورًا ومنارة هادية ومرشدة للعقل العربي.

 كان رحمه الله غزير الإنتاج عميق الفكر، أعطى بسخاء.. وكنا دومًا نتساءل: كيف ومتى أنتج الدكتور حسن حنفي كل هذه المؤلفات، وهو الذي لا ينزل من طائرة إلا ليستقل أخرى؟ كان كثير الترحال. طرحت عليه يومًا هذا السؤال؛ فأجاب بابتسامته الودودة، وصوته الذي يفيض حيوية وثقة:

«أصطحب كتبي دومًا معي.. على الطائرة أقرأ.. وفي الفندق، وفي كل مكان لا تفارقني الكتب والأوراق».

وحين أقعده المرض على كرسي متحرك، أُرْهِقَ الكرسي بنشاطه الجم، لم يتخلف عن محاضرة أو ندوة أو اجتماع، كان حاضر الذهن – رغم مرضه – يناقش ويتحاور، يتلقى الأسئلة ويرد بحيوية يفتقدها أصحاب الأبدان الفتية.

شغلته قضية التراث والتجديد منذ بداية حياته الفكرية، ورأى أن هذا هو مشروعه الفكري، وكرَّس حياته من أجل إعادة بناء علم أصول الدين التقليدي كأيديولوجية ثورية للشعوب الإسلامية تمدها بأسس النظرية العامة وتعطيها موجهات السلوك. لم يكن «التراث» عند حسن حنفي مقتصرًا على دراسة الماضي فحسب، بل هو أيضًا جزء من الواقع ومكوناته النفسية. رأى حنفي أن التراث القديم بأفكاره وتصوراته ومثله مازال موجهًا لسلوك الجماهير في حياتها اليومية؛ إما بعاطفة التقديس أو بالارتكان إلى ماضٍ زاهر تجد فيه الجماهير عزاءً عن واقعها المؤلم.

التراث إذن عند حسن حنفي مازال قيمة حية في وجدان العصر تؤثر فيه، ويكون باعثًا على السلوك. ومن هنا يتضح أن تجديد التراث ضرورة واقعية، أو بتعبير آخر رؤية صائبة للواقع، فالتراث حي يفعل في الناس ويوجه سلوكهم، وبالتالي يكون تجديد التراث هو وصف لسلوك الجماهير وتغييره لصالح قضية التقدم الاجتماعي، تجديد التراث هو في رأي حسن حنفي إطلاق لطاقات مختزنة عند الجماهير وتوجيهها نحو تقدم ورقي المجتمع بدلاً من صرفها بطرق غير سوية على دفعات عشوائية في سلوك قائم على التعصب أو الجهل أو الحمية الدينية والإيمان الأعمى. أو يستعملها أنصار تثبيت الأوضاع القائمة لحسابهم الخاص من أجل الدفاع عن تكريس الجهل والفقر والمرض.

يؤكد حسن حنفي أن رسالة الفكر ليست هى عرض أكبر قدر من المعلومات بدعوى نشر الثقافة أو تعريف الناس بما تجهله، أو الاطلاع على أحدث نظريات العصر؛ بل الفكر هو شهادة على العصر، وتعني الشهادة إعلان الحق وإعلائه، والمفكرون هم شهود الواقع.

ويرى حنفي أن تحليل التراث هو في الوقت نفسه تحليل عقلياتنا المعاصرة وبيان أسباب معوقاتها. وتحليل عقلياتنا المعاصرة هو في الآن ذاته تحليل للتراث، لأن التراث يسكننا، يسكن عقولنا ويحرك وجداننا، فالتراث والتجديد يؤسسان معًا علمًا جديدًا هو وصف للحاضر وكأنه ماضي يتحرك، ووصف للماضي على أنه حاضر معاش. وكلما أوغل الباحث في القديم وفك رموزه، وحل طلاسمه، أمكن رؤية العصر، والقضاء على المعوقات في القديم إلى الأبد. ولما كان التراث يشير إلى الماضي، والتجديد يشير إلى الحاضر، فإن قضية التراث والتجديد هى قضية التجانس في الزمان وربط الماضي بالحاضر، وإيجاد وحدة التاريخ.

«التراث والتجديد» لا يعني عند حسن حنفي أية نزعة توفيقية بين القديم والجديد، لأن التوفيق بهذا المعنى عمل غير علمي يخضع لمزاج شخصي للباحث، أو لاختيار مسبق للفيلسوف، أو يقوم على هوى يقضي على موضوعية القديم والجديد على السواء، وهو الطرف الثالث. وإذا كان التوفيق يتعامل مع شيئين هما موضوعا التوفيق فإن «التراث والتجديد» لا ينحو هذا النحو، بل يتعامل من شيء واحد وهو التراث القديم؛ والقيام بعرض هذا التراث وفقًا لحاجات العصر لا يعني توفيقًا بين الاثنين، وأخذ جزء من هذا مرةً وجزء من ذاك مرةً أخرى، بل يعني أن مطالب العصر هى أساس التفسير. فلا توجد علاقة تساوي بين طرفين، ولكن توجد علاقة أساس بمؤسس، أي أنها ليست علاقة أفقية يُوضَع فيها الطرفان على نفس المستوى، بل هى علاقة رأسية تُوضَع فيها حاجات العصر كأساس تحتي ثم التراث كمؤسس فوقي. كان التوفيق القديم عملية حضارية من أجل تمثيل الحضارات الغازية، في حين أن «التراث والتجديد» عملية اجتماعية من أجل تغيير الأوضاع القائمة.

إن المشروع الفكري لحسن حنفي لا يمكن تغطية كافة جوانبه في مجرد مقال، وإنما يحتاج إلى دراسات معمقة، ومن ثمَّ أرى أنه قد آن الأوان لقيام الباحثين العرب في مصر وسائر الدول العربية بتخصيص موضوعات رسائل الماجستير والدكتوراه للبحث في فكر الدكتور حسن حنفي وغيره من أصحاب المشروعات الفكرية الكبرى كعابد الجابري وطيب تيزيني وأدونيس وعبدالله العروي وزكي نجيب محمود وغيرهم.

دكتور حسين علي/ أستاذ المنطق وفلسفة العلوم بآداب عين شمس

أخبار الساعة

الاكثر قراءة