السبت 11 مايو 2024

ما فيش حاجة لله؟!

مقالات31-10-2021 | 11:52

حاجة لله يا باشا.. جملة تترد على مسامعه طويلا لكنه لم يتوقف يوما على معناها العظيم وذلك لعوامل منها أنها خرجت عن سياقها من الحث على العطاء إلى رذالة جمع المال التى يمارسها محترفون فى اصطياد القلوب بين الطرقات.. لكنه سمعها ذات مرة ثم دخل فى نوبة تفكير عميق فعَّلت بداخله تقنية "الفلاش باك" بلغة السينمائيين فاستعرض شريط حياته فى دقائق ليكتشف أنه لم يعد فعلا هناك شىء حوله لله فلكل شيء اليوم ثمن مقدم على الرغم من وجود البعض الذين مازالوا متمسكين بأن أجرهم سيوفى فى الآخرة.

جلس على أريكته بعد أن تناول طعام الغداء ليتلقى العبارة الأولى من زوجته.. الحمد لله والله ما كنت هلحق اطبخ كنت تعبانة طول النهار شغل فى البيت ما بيخلصش غير قرف العيال ولا شكر ولا حمدانية.. فالتفت إليها مرددا صحيح ما فيش حاجة ببلاش أبدا يعنى لازم تسمى بدنى بكلمتين.

ثم جاءه ابنه يتودد دون مناسبة بابا بابا.. نعم يا فلذة كبدى فقال له الابن البار مش أنا بسمع كلامك وبذاكر.. فرد طبعا يا حبيبى ربنا يبارك فيك.. وبعد أن تلقى الابن الأمان قال: طيب عايز 250 جنيها.. وضع الأب كوب الشاى على المنضدة والتفت إليه خير إن شاء الله فرد الابن أصل فى رحلة وعايز اشترك فيها وهنا أدرك الأب أن تجربة ابنه فى الحياة قد نضجت فقد شفع طلبه بمقدمات التليين والحنية ليحصل على مبتغاه فردد فى سره صحيح ما بقاش حاجة ببلاش.

وهنا راجع الأب يومياته فوجد أنه لا يحصل على شيء حتى ولو مجرد الجلوس على أريكته فى منزله دون مقابل واكتشف أنه الوحيد الذى يمنح كل من حوله لتسير حياته وإن امتنع لا قدر الله فلا غداء سيجد ولا طاعة ابن سيلمس.

فقرر الأب اعتزال تلك الفرق كلها ليدخل على غرفة نومه ليدير شاشته محاولا الحصول على أى عطلة تليفزيونية ترفيهية تنسيه ألم ما اكتشفه..

جلس يقلب الريموت ويتجول بين القنوات فاصطدمت عينه بأحد أفلام إسماعيل ياسين وبدأت البسمة ترتسم على وجهه كدليل تعاف مؤقت من أزمته لتتجدد الأحزان إذ يصطدم بفاصل إعلانى وتمر الدقائق وراء الدقائق فيبدأ الوسواس القهرى لديه "ما فيش بسمة ببلاش" لازم "تتلطع" أمام الشاشة تتابع سخافة الإعلانات التى تعمل كمسكن للسعادة ومنشط للغم والغتاتة وبعد ربع ساعة من إعلانات سخيفة مكررة يستأنف الفيلم وبمرور 5 دقائق تستلمه جرعة تنشيطية إعلانية مرة أخرى وهنا أحس بمشاعر اليتيم الذى ينتظر العطف ممن حوله ولا يعرف متى يصيبه ذلك العطف فقرر أن يتحرر من أسر تجار الإعلانات فلوح بكل قوة بالريموت فى يديه ليتحول إلى قناة أخرى ليجد برنامج توك شو معاد فقرر أن يصدع دماغه قليلا فوجدهم يتحدثون عن ضرورة احترام وقت المشاهد وأن كثرة الإعلانات التى تتخل البث تفسد على المشاهد متعته وتنغص عليه اندماجه الفنى مع العمل وقبل أن يتلقى الإجابة عن السؤال المعضلة صدمه المذيع قائلا: قبل أن نجيب سؤالنا فاصل قصير ثم نعود"

وهنا دخل الوالد المكلوم فى نوبة عصبية فألقى بالريموت فى وجه الشاشة وبدأ يعض فى وسائد سريره مقررا أن يترك لأحلامه الفرصة لترفه عنه بدل الاستغلال الذى وقع ضحيته فاضجع على وسادته وقرر الاستغراق فى النوم وحين بدأت جفون عينيه فى الانسدال وداعب النعاس مقلتيه فزع على صفارة عداد الكهرباء تنذره بضرورة شحن الكارت حتى لا ينقطع التيار الكهربى ومن ثم يتعطل جهاز التكييف لتتحول حجرته إلى قبر لكن بشبابيك.. فأطل من شباكه صارخا فى الهواء.. فى إييييييه يا عالم مش عارف أعيش ما فيش حاجة لله أبدا.

لم يصبر عليه أحد.. لم يمهله أحد.. لم يشعر بآلامه أحد.. حتى عداد الكهرباء بكارت مسبوق الدفع.

اكتشف الأب المكلوم أن المواطنة أيضا مدفوعة مقدما فلا مكان لانتظار سيارته إلا بمقابل لا راحة فى بيته إلا بمقابل لا شيء إلا بمقابل لا تعليم لا صحة لا ضحكة إلا بمقابل وهنا قرر أن يمارس هواية الشحاذ ليستمتع بإحساسه وهو يحصد أموال الناس دون أن يقدم شيئا فاختار شارعا ليمارس فيه تلك الهواية لعله يشعر بأن هناك من يكترث به وعلى استعداد أن يسانده دون انتظار مقابل وفى ساعة نحس وجد نفسه محاطا بأربعة من البلطجية يسألونه عن إتاوة السماح له ببمارسة الشحاذة فى هذا الشارع الواقع فى إطار نفوذهم..

ذهل الرجل وأسقط فى يده وتهدلت جفونه وتفككت أعصاب قدميه وأيقن أنه تحت حصار محكم لترتيب مجتمعى مضطرب جعل منه ممولا للحياة لا مستمتعا بها فضاقت به الأرض بما رحبت فددلل رأسه إلى الأرض متوجها إلى منزله مرددا فى تكرار ما فيش حاجة لله ما فيش حاجة لله.

Dr.Radwa
Egypt Air