قد يدفعنا الحزن وتدفعنا الصدمة إلى الصمت والوحدة فندخلها أملا أن نتحرر من قيودنا أو نشفى من داء أذلنا، نعود بعدها أقوياء نقسم أننا سننتقم لأنفسنا.. لكننا نكتشف فى عزلتنا أن أنفسنا سرقت منا فلم نعد نحن من نفكر.. فنصاب بالحزن والحسرة فلم يعد القرار ملكنا.. فقد نشتاق لمن جرحنا.. فنخرج منها أشد جرحا وألما بعدما فضحتنا الوحدة.. بعدما هزمنا فى معركتنا.. فنكسرها ونخرج لمن جرحنا ليفعل بنا ما يريد.. وقد ننجح ونستعيد أنفسنا.. وقد لا ننتقم.. لكننا تعلمنا أن الحياة سلسلة من حالات الوحدة ما بين فراق ولقاء نعود فيها لأنفسنا لنشعل وقودها لتتعود على ملاقاتها.
دائما ما نخطئ فى اعتقادنا أن أحوال الحياة لا تتقلب ما بين السلب والإيجاب والفرح والحزن.. وهذا السبب فى صدمتنا.. فدائما ما ننسى إذا ما خالفت ظنوننا أو توقعاتنا.. وإذا ما حدث يصاب الإنسان بالصمت الإنسانى وتشتد رغبته فى الانسحاب داخل نفسه رافضا التواصل والضجيج حوله.. وربما كان الحزن وربما كان كبرياؤه السبب فى عدم إظهار تأثير الصدمة ومدى الضعف الذى أصابه يدفعه للوحدة وأن يختلى بنفسه.. وتختلف شكل ومدة الوحدة من شخص لآخر.. فالبعض يعيش محطما محبطا بشكل يفوق حرصه على حياته.. قد يرفض معها أسباب الحياة من الطعام والشراب والاعتناء بنفسه قد تصل للاكتئاب.. والبعض الآخر يكون حريصا على أن تكون وحدته لمحاسبة نفسه التى تختلف من شخص لآخر.. فى هذه الحالة تكون الوحدة للملمة شتات النفس للخروج بقرار مهم أو مصيرى، ربما يؤثر عليه التواصل مع الآخرين حتى فى صورة المواساة مثلما الحال فى الصدمات المادية.. أما فى الحالة الأولى فقد تكون بسبب فراق الأحبة أو موت أحد المقربين أو التعرض لأشكال الخيانة والغدر، فيصبح للوحدة تأثير سلبى على صاحبها إذ يجب تواصل المخلصين للتخفيف حتى لا تتدهور أحوالهم داخل وحدة تفقد الإنسان رغبته فى الحياة وقد يصبح الموت أهون على صاحبها وخاصة فى بداية حياة الإنسان حيث تكون الصدمات بالشدة التى تجعله يتصور أنها النهاية على الرغم أنها المقدمة التى أتت لتعلمه طبع الحياة حتى يقوى ويشتد عوده.. وبمرور الوقت يتأقلم ويتكيف ولسان حاله «يا ما دقت على الراس طبول».
والغريب أننا فى بداية حياتنا نحاط بمن يهتمون بأحوالنا ويرعونها وبمرور الوقت تجد أعدادهم تقل مع تقدم أعمارنا الذين نفقدهم فى طريق حياتنا حتى إننا نصل لوجودنا وحدنا فى الحياة ووقتها تصبح الوحدة أشد ألما بالنسبة لنا.. وكلما تقدمنا فى العمر يزداد تأثير الوحدة علينا، فلم نعد نحن كما كنا.. أصبحنا أصحاب قرار وعلينا تحمل عواقبه وما يصاحبه من درجات تأنيب الضمير فى وحدتنا!!
وحتى الوحدة التى نذهب إليها سواء كنا مجبرين أو مخيرين قد لا تمنحنا الأيام فرصتها.. بأن نأخذ الوقت الكافى فى استيعاب الصدمة والحزن لنستعيد حياتنا ونستأنفها.. فقد تكون هذه المدة رفاهية لا تسمح لك ظروف حياتك بالاختباء فيها.. فكثير منا لا تسمح لهم ضغوط الحياة بها ولزاما عليهم اختزالها ليعاودوا الركض والسعى واللهث وراء لقمة العيش!! وإلا فمن يقوم بدورهم فى غيابهم النفسى.. أو حتى قد لا يجد الإنسان فى وحدته من يحن عليه ويواسيه حتى يستأنف حياته!!
وكلما كانت الصدمة قوية من أطراف كنا نظنهم أكثر وفاء كان الصمت والحزن والوحدة أكبر.. قد تؤثر على ثقته بمن حوله وخاصة فى حالات الخيانة التى تبدأ بسلسلة من التساؤلات الاستنكارية كلها بعنوان «لماذا؟» يفعل معى هكذا؟.. وفى الغالب يؤكد لنفسه أنه ليس خطأه.. ويتبقى أمامه أن يكره صاحب الصدمة وأن يستعيد ذاته مرة أخرى ولو حتى فى أبسط صورها ليكمل حياته بعدما سقط من أحبهم فى امتحان حبه وكانوا سببا فى الوحدة والحزن.. وإذا خرج من وحدته ليكمل حياته لن ينسى هذه الأزمة.. وإن فشل فى خيار الوحدة فإنه يذهب لمحبوبه ليعذبه مرة أخرى لأنه لم يستطع أن يعيش بدونه لأنه اكتشف فى وحدته أنه سرق منه نفسه التى أصبح يفكر بها ويعيش بها!!
وفى الحقيقة ونحن فى خيار الوحدة نتعرض لعوامل عديدة تتصارع داخلنا تتألف من نفسك المجروحة والطرف الذى تسبب فى الجرح وروحك الممزقة الحزينة.. فلو كان الإنسان من التعقل الكافى لا يفقد ثقته بنفسه ويخرج أفضل باستمرار الحياة بدون الطرف الصادم، وهو يعلن أنه خرج من حياته للأبد وقد يستحوذ عليه شيطانه فى وحدته ليدفعه لحالات الثأر والتنكيل وهى أمور واردة فلسنا كلنا مسالمين ومتسامحين.
وقد تكون حالات الوحدة اختيارية فى اتجاهات إيجابية تخلو من الحزن والصدمة فقد تكون للتأمل والترويح عن النفس بعيدا عن ضجيج الآخرين.. فكثير منا من يحلو له أن يبعد عن مؤثرات بعينها ليخرج بقرارات مصيرية أو حتى أعمال إبداعية لم يكن عن الوحدة بديل لإظهارها.. حتى العبادات والأعمال الروحانية تحتاج أن يخلو الإنسان بنفسه فى مناجاة ربه فهى وحدة موقوتة يعلم صاحبها متى يدخل إليها ومتى يخرج منها وهى صحية يعلم فيها الإنسان نفسه وروحه كيف تسمو.. وإن اعتاد الإنسان عليها ستكون زاده فى مواجهة صعوبات الأيام.
وهناك حالات من الوحدة لا يفصح الكثيرون عن حاجتهم إليها.. وعلى فكرة كلنا نحظى بها فنتخلى عن كثير من الأمور التى تعيق مواجهتنا لأنفسنا فى ظل مجتمع قد يفرض علينا أو نفرض على أنفسنا قيودا من النفاق والمجاملات التى تكون على حساب قناعتنا النفسية فى كثير من أمور حياتنا.. أعمالنا.. فى علاقاتنا بأقاربنا وجيراننا وغيرها.. ونحن نعلم جيدا أننا نرفض هذه الأمور.. فنذهب فى إجازة ترتاح فيها أنفسنا من أعباء اجتماعية ضد طبيعتنا الإنسانية نواجه فيها أنفسنا وتصفى روحنا.. فلسنا ملائكة فكل واحد فينا يعلم ما حمل نفسه بها من تجاوزات ونخفى مشاعرنا من أجل وبحجة أمور عديدة أبسطها «لقمة العيش» حتى وإن لم ترق لمكانة معينة فكل مهمة لها متطلباتها حتى تحملك سخافات من حولك، فتضغط عليك وتجعلك تطلب إجازة لنفسك.. تذهب فيها لوحدة حتى تستكمل مشوار حياتك.. فما أجمل أن تذهب نفسك لنفسك الحقيقية فى اختيار مطلق.. قد يحييها هذا الذهاب فقد يفقدك الغياب نفسك فتصبح ميتة.. وقد لا تستطيع إعادتها أو تفاجأ بها أمامك تفسد عليك كل أوقات استمتاعك بصوت الضمير الإنسانى الذى يؤرق صاحبه فى كل وقت.
فلا عجب فى ذلك فكلنا نجامل ونتحامل حتى تسير الأمور بشكل يجعلنا نتكيف مع من حولنا لدرجة تجعلنا نفقد الكثير من ذاتنا.. فنحيا كما يحلو لغيرنا وقد نفشل ونعود لأنفسنا نتقوقع كما «القنفذ» الذى لا يتفاعل مع من حوله متخفيا وراء أشواك وحدته!!
وتؤثر درجة ثقة الإنسان فى نفسه فى درجة وشكل الصدمة وخيار الوحدة بشكل يجعل تأثير صورته الواقعية فى عيون الآخرين فى حدودها الصحية التى تجعله يتكيف مع الواقع المتغير.. على عكس الذين تقل ثقتهم بأنفسهم فتقل قدراتهم على التواصل الاجتماعى.. وقد يتطور الأمر لأن تصبح حياتهم فى عزلة خوفا من الفشل فيتحول صاحبها لشخص انطوائى.. ولا أنكر أنه حتى الأشخاص الاجتماعين يحتاجون لفترات من الوحدة ولكنها للراحة وإعادة ترتيب الأفكار والبحث عن السعادة.. ولكنه لا يستغنى عن التواصل الاجتماعى، فلا يستطيع أن يحيا بمفرده فهو دائما ما يحتاج الشركاء ليشعر على الأقل بتفوقه ونجاحه فى حياته ليرى التقدير فى عيون الآخرين، وأنه حينما يذهب لوحدته يعلم أنه سيعود أفضل مما كان.. على عكس فاقدى الثقة فى أنفسهم فهم أناس متى أصيبوا بصدمة نتيجة فشلهم فى التكيف.. فإن الوحدة قطعا ستقضى عليهم، لأنهم متى خرجوا منها محاولين إرضاء الآخرين فإنهم سيفشلون لأنهم لا يستطيعون إرضاء كل الناس طوال الوقت.
وتمثل العزلة والوحدة لكبار السن أقسى درجات الألم والحزن بعد رحلة حياة من العمل والزواج، حتى إنهم أصبحوا ينتظرون ساعة الرحيل نتيجة العزلة الإجبارية بعدما أقعدتهم الحياة نتيجة الوهن والضعف ولسان حالهم لذويهم «زورونى كل سنة مرة ولا تنسونيش كده بالمرة».
وليس شرطا أن نشعر بالوحدة ونحن نختلى بأنفسنا فى غرفنا فقد نشعر بها وسط الآخرين إذا غاب التفاهم ومشاركتنا لبعضنا البعض فى أفراحنا وأحزاننا!!
فقد يدفعنا الحزن لنختلى بأنفسنا ويدفعنا نفس الحزن لنخرج للناس ليكونوا بجوارنا فمقداره أكبر من تحملنا له وحدنا.. قد نهجر بعض من ألمنا من الناس لكننا نذهب لأناس غيرهم نلتمس راحتنا عندهم.. فالوحدة قد تكون حلا لمآسينا ولكنه حل قصير الأمد لا نستطيع أن نستمر فيه ما بقى من حياتنا.. قد نخرج منه أشد احتياجا لآخرين محبين مخلصين.. فحينما صدمنا كنا من الكبرياء ما جعلنا نتخفى.. ولكننا عودنا أقوياء أو هكذا مسحنا ضعفنا لنحيا أقوياء فى غابة الحياة التى لا تواصل معها لضعيف.. نعم الوحدة أعانتنا على حياة الأقوياء واختبأنا فيها مثل «القنفذ» لنعود بقلب وعقل وأشواك تحمينا من جرح جديد.. وسيظل تعلقنا بالوحدة لا ينتهى طالما جروح الحياة لا تنتهى!!