يكتبها : يحيي تادرس
اسمحوا لي أن اقص عليكم انباء أغرب شوارع القاهرة شارع لو مشيت فيه قادما من باب الخلق - ستجد مصر علي يمينك «كانت هذه تسميتها قبل القاهرة - والقاهرة علي يسارك ....
وقبل حلول رمضان وخلاله - يزدحم الشارع الضيق بالآلاف ولكن قبل كل هذا - لماذا يتصف هذا الشارع تحديدا - بالغرابة؟
....
لنتجول معاً:
علي اليسار - يقع سجن الاستئناف و«المشنقة» حيث يستقر عشماوى الرهيب -منتظراً الأمر بتنفيذ أحكام الإعدام
...
بجواره مقهي يجلس عليها أقارب المساجين في سجن الاستئناف وتتعالي صيحاتهم حتي يرد ذووهم من نوافذ السجن.
.....
علي اليمين العديد من المهن والصناعات التي كان لها صيت فيما مضي من الأيام..
المنخل والغربال.. كان الأول من لوازم صناعة الكحك البيتي حيث يتم فيه «نخل» الدقيق
... أما الغربال - بجانب وظائفه التي كانت كل ست بيت تعرفها كان يوضع فيه الأطفال الرضع - خلال احتفال ذويهم بالسبوع
.....
والغربال تحديداً - هناك مثل معروف «زي الميه في الغربال» وبالقطع فإن المياه لا تستقر فيه بسبب فتحاته؟!
....
لنتقدم قليلاً
هذا رجل شعاره «الفأر» صديقي - فهو يصنع ببراعة مصائد الفئران بكافة اشكالها وأنواعها وأحجامها وهو دائم الضحك ويعتبر الفأر صديقه بالفعل إذا أنه مصدر أكل عيشه
....
بجواره دكان صغير وصاحبه يرفض التصوير لأنه يبيع سلعة لا يتهم بها حاليا سوي «العربجية»
... إنه يبيع «اكسسوارات» الحمير من خرز أزرق لزوم منع الحسد إلي زينات توضع فوق رأسها إلي العديد من أدوات زينة الحمير
... زمان.... كان زبايني ناس أصحاب مزاج .. والحمير كانت دليل الأبهة يهتم بها أصحابها ويدللونها ويهتمون بها أما الآن....
رغم أن الحمار في رأيي - من أهم وسائل النقل تأمل معي عربات الكارو بأحمالها الثقيلة - ينقلها وهو صابر يارتي لو اتكلم هايقول ايه؟!
إيه في قسوة البني آدمين عليه؟
...
لنتركه في تأملاته ونلقي نظرة علي اليمين
..... ورشة صغيرة أمامها عدة ألواح خشبية داخل الورشة ماكينة صغيرة قديمة وأمامها يقف صاحبها الأسطي «نور»
ماذا يصنع الأسطي نور؟
«إنه - يصنع «القبقاب»
... زمان كان معظم الغلابة بيلبسوا القباقيب في الشارع رجالة وستات لكن الستات كانوا يلبسوه بجلاجل وفوقه خلخال فضة.
«هل تذكرون أغنية رنة خلخالى يا أمه» سيد درويش
... وكان الخلخال الحريمي الذي يستخدم في الحمام عاليا قليلاً عن الأرض حتي لا تبتل قدم من تستخدمه
... كان القبقاب درجات حسب الخشب والصنعة وكان صوته في الشارع يملأ آذاننا بالطرب - أمال - موش أكل عيش
... سيبنا شوية من زمان - القباقيب اللي قدامك دي كلها عاملها لمين - لجوامع - همه زبايني دلوقتي بعد الناس ما ابتدت تلبس الشباشب والجزم الكاوتش وفين وفين لما أبيع قباقيب لصنايعة في المصابغ ولا...
....
عايز تصورني هاتلي نصف متر خشب وأعمل قباقيب لحسابك
...
بعده - علي اليسار - أيضا شارع ضيق اسمه علي ما أتذكر «قبة الهوا»
.... هذا الشارع الضيق كان له أيام الحرب الثانية شهرة - إذا كان ولا يزال - يحتفظ «بمخبأ» كان سكان الشارع يلجأون إليه وقت الغارات
....
في نهاية الشارع «لا يتجاوز طوله العشرين مترا» محل صغير صاحبه يجلس علي كرسي واطي - يصنع الكراسي البلدية للمقاهي.
طب والكراسي الأبهة اللي أنا شايفها قدام المحل
دول لأولاد الذوات اللي بيستخدموها في الديكور قال إيه دي كراسي الناس الغلابة - تعالوا نمثل دورهم ونتسلي
......
بجواره مصنع صغير للرخام «اعتقد أن اسم صاحبه الحاج وهبة»
إنه يصنع كافة منتجات الرخام ولكن له شكوي:
- طب علينا شوية أجانب وعملوا مصانع فى «شق التعبان» لكن أحدث أنواع الرخام أرقي وأغلي لكن نقول إيه:
الأرزاق علي الله
..
علي اليمين
.. عربة فول - لا تستطيع أن تجد مكانا حولها في الصباح - أو وقت الإفطار.
.. العربة مليئة بالآيات القرآنية تبدأ بسورة الفلق وتنتهي بعبارات مثل:
يا ناس يا شر .. كفاية أر
... بعدها بأمتار ورشة للأخشاب
ليست أي أخشاب - إذ أنها مخصصة «للأورمة» التي كان يستخدمها الجزارون لقطع اللحوم - أو «الجرنة» وهو «الهون» الخشبي
...
فزمان الهون ده كان نحاس ... ولما النحاس أسعاره أصبحت ولا الدهب الناس الغلابة ابتدوا يشتروا «الجرن» الخشب
.. طب غير الأورمة بتاع الجزارين والأجران؟
زي ما أنت شايف - كراسي مطبخ و.... كل مستلزمات الناس اللي زي حالاتنا...
..
بجواره وعلي جانبي الشارع - ورش حدادة متخصصة في مهن متعددة.
- عربات (الجيلاتي)
- نصبة القهوة
- عربات البطاطا
و.. ماكينات البن.
...
وهنا نتوقف عند معلومة طريفة
.. إيام الحرب العالمية الثانية - توقف الاستيراد - وهنا ربما كان يتمتع بها صاحب الورشة من ذكاء - استطاع أن يصنع ماكينات طحن البن - وتصديرها للبلاد العربية.
.. أما الآن
- هاتلي أي رسم لأي عربية ولأمكنة لأي صنعة وأنا أسلمها لك في أسبوع.
آه .. ما هذا الزحام
.. إنها إحدي ورش الشارع لصناعة فانوس رمضان.
- كان شهر رمضان ده رزقنا طول السنة - لكن بعد الصين والبلاستيك الشغل قل لكن لما منعوا الاستيراد والشغل رجع زي الأول وأكثر.
موش بس صفيح، لكن فيه نحاس وخشب.
- خشب!
- إخواننا الدمايطة شطار - ابتدوا يشتغلوا في الفوانيس..
موش بس الأطفال لكن في الشوارع واللوكاندات و(الفِلَلْ) والسرايات بيتباركوا به.
.. وياما عربيات فخمة بتقف قدامنا ويشتروا ولا يوصُّوا علي فوانيس.. وطبعا فوانيسهم بتبقي نحاس والغالي ثمنه فيه.
- طبعا فاكر واحنا عيال صغيرين كنا نمسك الفوانيس ونغني وحوي يا وحوي.
... وساعات كنا نمشي ورا المسحراتي.
(أتذكر مسحراتي فؤاد حداد وسيد مكاوي).
.. الفانوس ده كان بهجة الأطفال وخصوصا في الشوارع اللي كانت الكهربا لسه ما وصلتهاش ليها.
.. كان العيل من دول يشبط فى أي فانوس ملون ويفضل يبكي لحد أمه ولا أبوه يشتريه.
.. دلوقتي بعد إذنك.. الزباين عاملة زحمة وخللونا نشوف أكل عيشنا.
آه.. بجوارى في الزقاق مصنع آخر لشخص تخصص في صناعة الشبابيك الخشبية (التي كان لها شنة ورنة).
(عبدالعزيز محمود غني لها شباك حبيبي)
.. الله يسامحوا اللي بَدَعْ الألوميتال - بقي حد يسيب الشبابيك الخشب أم ضلفتين ويعمل ألومنيوم.. الحمدلله في الأرياف وحتي في الشارع اللي احنا فيه لسه بيستخدموا الخشب..
أمام الورشة كنفاني له ذكريات غريبة.
- أنا شفت الملك فاروق؟
... زبايني زمان كانوا باشوات وبهوات يشتروا بالعشرة والعشرين (وقَّة) موش عشان ياكلوهم - لكن عشان يوزعوهم ع الغلابة (حاجة كده زي موائد الرحمن)
.. ولا القطايف اللي كانوا يملوها مكسرات ويضحك لكن دلوقتي.
.. فول سوداني ما فيش غيره.. المكسرات دلوقتي ولا الدهب وكل سنة وانت طيب.
علي يمين الشارع - حارة القِربَية) - أي صناع قرب السقائين.
هل تذكر عزت العلايلي في رائعة صلاح أبو سيف - السقا مات .. الآن - تخصص الحارة في تجارة الجلود ومصبغة قديمة و ....
وكان للسقا اعتباره في القديم ويقول المؤرخ (أولم فولكولف) في كتابه القاهرة مدينة ألف ليلة.
كان القادرون يدفعون للسقا ثمنا مقابل ما يشربونه من ماء - أما الفقراء فكانوا يشربون مجانا - وفي الموالد - وفي رمضان كانوا يوزعون الماء مجانا..
.. علي اليمين سور القاهرة الذي ينتهي بأحد أبوابها (باب زويلة ويقول نفس المؤرخ
.. زويلة اسم قبيلة من البربر أتت مع جوهر الصقلي (وهو أرميني بالمناسبة) وكان الباب مسرحا لتنفيذ أحكام الإعدام العلني..
في نهاية الشارع مسجد المؤيد شيخ.
وعلي اليمين شارع الخيامية - حيث كان عملهم يزدهر في شهر رمضان - للسرادقات الضخمة التي كانت تقام في الميادين..
والآن عزيزي القارئ
هل اكتفيت واقتنعت بأن هذا الشارع من أغرب شوارع القاهرة.
و.. كل رمضان وأنتم بخير