في المُعجم العربي يُشار للتاريخ بأنه الإعلام بالوقت وما وقع فيه من أحداثٍ ومُجريات، وفي تحليل (هيرودوت) -أبو التاريخ- هو البحث والتقصيّ في أحوال الماضي، وعند (ابن خلدون) هو فن من الفنون، وفي مفاهيم (هيجل) هو مسار تُكافح فيه الروح لكي تصل إلى الوعي بذاتها، وأيًا كانت التعريفات فقد اتفق الجميع على أن التاريخ هو ماضي الإنسانية الذي يُعَد أساسًا للزمن الحالي والرهان الرابح للآونة القادمة؛ فمن خلال دراسته وتدبر أحداثه واستخلاص مواعظه ومعرفة حقيقة شخوصه ونماذجه يستطيع الإنسان أن يسير نحو مستقبل مُستنير.
لذا كان لابد عند دراسته من ظهور مُصطلح (فلسفة التاريخ) كعلم تبصيري؛ والفلسفة كلمة يونانية معناها المُحِب للحكمة وتعني التأمل التجريدي للظواهر البشرية ومحاولات تفسيرها واستخدامها في سياقات أخرى، وكان (ابن خلدون) هو أول من وضع دعائم وأسس تلك الفلسفة، والتي ظهرت كمُصطلح في أوروبا فعلياً على يد المُفكر (فولتير- Voltaire)، ولكن هذا لا يجعلنا نُنكر أن فعل التَفلسُف في التاريخ علم قديم؛ وجدنا الكثير من الآثار له في الكتابات الإغريقية مما خلفه أرسطو وأفلاطون.
وبالتدقيق نرى إعجاز القرآن الكريم سَبْاقًا في هذا العلم؛ فبتدبره نجده قد اختص أكثر من نصف سوره وآياته للوقائع التاريخية؛ أو ما ذُكر بأساطير الأولين: (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلكُم سُنَن فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ)؛ أي دعوة صريحة من الخالق للنَظر في التاريخ ومعرفة سننه، واستخلاص الموعظة من أحداثه.
تطور علم (فلسفة التاريخ) بفعل الزمن وتغيرت مدارسه ونظرياته واتجاهاته؛ ونحن هنا بصدد رفع القُبعة لفلسفة (ابن خلدون) ونظرياته التي أثبتت تفوقها على نظريات عصور لاحقة لعهده؛ فهو أول مؤرخ فيلسوف يعتمد على التنقيح والانتقاء للأحداث والوقائع وإخضاعها لنظريات النقد والمقارنة والتحليل؛ لم يستسلم لنظريات أسلافه ولم يتخذ من كتاباتهم مُسلمَات؛ بل كشف المُغالطات فيما طرحوه وعاب عليهم هذا في مقدمته الشهيرة قائلًا: (المؤرخين في الإسلام قد استوعبوا أخبار الأيام وجمعوها وردوها إلينا كما سمعوها، ولم يلاحظوا أسباب الوقائع ولم يراعوها)، ومن خلال استقراء ابن خلدون وتحليله، نجده سَمح بالخروج بنظرية (التَعاقُب الدوري للحضارات)؛ أي فَعَّل قانون (الحِراك التاريخي)؛ بمعنى أن للدول أعمارٍ طبيعية مثل البشر؛ تنشأ كطفل وتترعرع للشباب والقوة ثم تشيخ وتمرض بفعل الزمن، وهو ما أتى عكسه (كارل ماركس) بنظريته الشهيرة القائمة على الصراع الطبقي والعامل الاقتصادي كمُحركين أساسيين لعجلة التاريخ؛ وهي فلسفة حاولت أن تُبرهن على فساد النظام الرأسمالي وتبشر بسقوطه وحتمية انهياره متنبأة بالشيوعية في مجتمع الإنسانية المُقبل بلا طبقات اجتماعية، واعدة معتنقي أيديولوچيتها بالسعادة وخلود الدولة مُبتعدة عن الاستقراء الحقيقي للحِراك التاريخي، وهو ما ثَبُت فشله عند سقوط الشيوعية وانتصار الرأسمالية.
كل تلك النظريات قابله للنقد تحت عباءة فلسفة التاريخ، ذلك المصطلح الجاذب بشدة للعقول، يراه البعض علمًا قائماً بذاته لقدرته على استبصار القادم باستقراء التاريخ مما يسهم في تقليل الأخطاء ومحاولة البحث عن أسباب الحوادث المباشرة والغير مباشرة والاجتهاد في التحليل واستخراج الأحكام.
والمثير للدهشة هو كون المؤرخين يرفضون قوانين الفلسفة التي فرضت نفسها على التاريخ، وفلاسفة التاريخ يبحثون دائما عن القوانين الكلية والعامة التي يخضع لها تاريخ الإنسانية على مر العصور رافضين جمود المؤرخين، ولا زال الخلاف قائماً بين الفريقين.
فاقرأ التاريخ يا عزيزي تَبصْر به فهو عين القادم وكاشف المستقبل.