هناك فعل خسيس يفضح غرضه بنفسه ولا يحتاج إلى خبرة كبيرة لتعرف من ورائه أو الغرض من خسة الفعل، أقرب مثال على هذا إعادة تدوير قاذورات أطلقها شخص مختل وموتور قبل سنوات، وظلت ملقاة على وسائط السوشيال ميديا، وتتصاعد من قاذورات الفتن هذه روائح عفنة من الدناءة والحقارة وسُمِّية الغرض الذى يقف وراءها.
لا يحتاج الأمر إلى نشاط كبير فى البحث على هذه الوسائط لنجد أطنانًا من هذه القاذورات الدنيئة، التى تهاجم كل دين وكل قيمة وشخصية سامية، يفضح حجم الفحش فى هذه الحقارة دائمًا غرض الذى يقف وراءها من شياطين الفتنة.
هذا الأمر واضح وجلى لكل صاحب عقل ولكن رغم هذا الوضوح يتقدم سؤال.. لماذا الآن يتم إعادة تدوير قاذورات الفتنة وإلقائها فى طريق مجتمع آمن تجاوز فى سعيه وتقدمه الكثير من العقبات التى كانت تعيقه عن التقدم؟
إذا أردنا إجابة وافية حول سؤال لماذا الآن، فيجب أن نستعرض بدقة تفاصيل المشهد المرتبط بمصر، أمة ودولة، داخليًا وخارجيًا، لنعرف أن النجاح الذى ينطلق إلى رحاب التفوق، كما يجد من يباركه ويسعد به فهو فى نفس الوقت يستدعى قوى الشر التى تحترق غيظًا من هذا النجاح والتفوق.
عندما نبدأ فى استعراض المشهد داخليًا فيجب أن نعود إلى المرجعية إلى ثورة الـ30 من يونيو، كان للثورة نتائج كثيرة وعلى رأسها دحر قوى الظلام والفاشية على مستوى الأمة بإرادة شعبية واضحة قادتها جماهير يونيو، هذه الضربات الساحقة التى نالتها الظلامية والفاشية على المستوى السياسى طورتها الدولة المصرية بمساندة جماهيرية من أجل استعادة الهوية المصرية التى تعرضت للتشويه طوال عقود ماضية.
لم يكن مشروع استعادة الهوية من قبل الدولة المصرية أمرًا عابرًا أو بحثًا عن صورة براقة تجمل من فعل الثورة وحراك الجماهير، بل كان العمل على استعادة الهوية وتخليصها من أدران الفاشية وأذنابها من المتسلفة هو أساس المشروع المصرى التقدمى الذى يدير الآن حركة البناء على هذه الأرض الطيبة.
استطاعت الدولة المصرية خلال 8 سنوات استعادة الجزء الأكبر من الهوية الأصيلة لهذه الأمة، وكان أوضح نتائج هذه الاستعادة تلاشى حرائق الفتن، لأن مثيري الفتن من القوى الظلامية شُلت قدرتهم التى كانت تتحرك من وراء الستار وكانت تزرع هذه الفتنة ليس فقط بين دين وآخر بل على كافة المستويات وبين أبناء الدين الواحد والأحداث ليست ببعيدة عن ذاكرة هذا المجتمع التى تؤكد أن هذه القوى الظلامية أرادت غرس الفتنة داخل كل بيت فى هذا الوطن، ولا فرق هنا فى توزيع الشر من قبل هذه القوى بين مسلم ومسيحى.
بَنَت الدولة المصرية مشروعها الذى تنجزه الآن، ومستمرة فى إنجازه، على قاعدة المواطنة المصرية وهذا البناء لم يكن اختيارًا بل أحد مطالب جماهير الـ30 من يونيو التى أغلقت بثورتها الجامعة باب الفتنة واعتمدت الهوية المصرية طريقًا لحياتها.
أعطت هذه القاعدة الراسخة من استعادة الهوية وتفعيل المواطنة القدرة الكاملة للدولة المصرية على الخروج من حالة الاستثناء التى تزامنت مع صراع الأمة مع هذه القوى الظلامية والانتصار عليها فانتقلت إلى الحالة الطبيعية كدولة مؤثرة تمارس دورها بأريحية على المستوى الداخلى أولا ثم الإقليمى والدولى.
تظهر بوضوح نتائج الخروج من حالة الاستثناء إلى الحالة الطبيعية من ملاحظة الملفات التى أدارتها الدولة المصرية على المستوى السياسى، وهو ذروة الفعل فى الإدارة خلال الفترة الماضية من إطلاق الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان إلى إلغاء حالة الطوارئ التى لا تحتاجها دولة منتصرة وطبيعية، وقبل هذا رسخت الدولة مكافحة الفساد وتثبيت قواعد الإصلاح كاستراتيجية لا يمكن الحياد عنها.
بالتأكيد أمام هذا التقدم على مستويات استعادة الهوية التى أغلقت أبواب الفتن والانتقال من حالة الاستثناء إلى الحالة الطبيعية احترقت القوى الظلامية ومن ورائها غيظًا، ولكنها لم تتحرك بأفعالها الشريرة ومؤامراتها الخائبة منتظرة لحظة أخرى مرتبطة بالمشهد الخارجى متوهمة أنها لحظة مواتية لبث سمومها.
بالانتقال إلى المشهد الخارجى لم يكن مستغربًا أن تعيد قوى الظلام ومن ورائها ويحركها تدوير نفايات الفتنة القديمة عقب نجاح جولة الحوار الاستراتيجى بين مصر والولايات المتحدة وهذا النجاح ليس محض تصورات، لكن الوثائق هى ما تشير لهذا النجاح وتشير أن العلاقات بين مصر والولايات المتحدة ارتفعت إلى مراحل من الثقة والاتزان وتجاوزت الكثير من العقبات ولإثبات ذلك يمكن الرجوع إلى كلمة وزير الخارجية الأمريكى أنتونى بلينكن فى افتتاح جولة الحوار والبيان الختامى الصادر من الدولتين فى نهايته، فالوثيقتين تقولان بوضوح إن مصر والولايات المتحدة يصيغان علاقتهما وفق قواعد جديدة أساسها الندية والاحترام.
ترقبت قوى الظلام ومن ورائها هذا الحوار منذ لحظة الإعلان عنه والتحضير له وتصورت أن الحوار يمكن أن يتحول إلى انفجار، وبنت تصورها المريض على أوهام خلاف متوقع بين مصر والولايات المتحدة حول ملف حقوق الإنسان واتجاهات الإدارة الأمريكية الحالية التى رأتها امتدادًا لإدارات سابقة من إدارة بيل كلينتون إلى باراك أوباما التى طالما استخدمت هذا الملف كورقة ضغط سياسى فى علاقاتها الخارجية، وانتظرت قوى الظلام ومن ورائها سماع دوي الخلافات ولكن الحوار الذى امتد على مدار يومين انتهى بسماع تبادل التحيات والإطراء المتبادل.
نهشت الحسرة قوى الظلام فلم يحدث ما توقعوه وتحضروا له، سيظل الغباء هو الكنز الاستراتيجى الذى تحارب من أجل الحفاظ عليه قوى الفاشية الظلامية إلى الأبد، لقد منعها غباؤها الدائم من قراءة المشهد الأمريكى الداخلى أولا ثم المشهد الإقليمى والدولى ثانيا أما عن المشهد المصرى فغبائها العميق يعميها دائما عن قراءة أن هناك دولة مصرية تحررت من قيود الاستثناء، والآن هى تجنى ثمار الوضع الطبيعى المستقل والدائم الذى لا يقبل أى تدخلات أو إملاءات.
كان لا يمكن للولايات المتحدة أن تعطى دروسًا فى حقوق الإنسان وهى تعانى داخليًا اضطرابًا عميقًا فى مجتمعها على مستوى هذه الحقوق لأسباب متراكمة يطول شرحها وعلى كافة الاتجاهات سواء العرقية أو الدينية أو الانتماءات السياسية، ووصل هذا الاضطراب إلى درجة الانقسام مما دفع الرئيس الأمريكى جو بايدن إلى الإعلان بوضوح أن أخطر ما يهدد الأمة الأمريكية يأتى من الداخل وليس من الخارج، ورفعت الأجهزة الأمنية الأمريكية تحذيراتها إلى الدرجات القصوى بأن الإرهاب والانقسام الداخلى يهدد وجود الولايات المتحدة.
فى كل يوم تسمع طلقات الرصاص ودوي الانفجارات فى المدن الأمريكية التى يقف خلفها صراعات عرقية ودينية وسياسية ناتجة عن مجتمع يرى أن حقوقه الإنسانية تعانى أزمة عميقة ومستمرة.
هل يمكن مثلا أن تفتح الإدارة الأمريكية الحالية مع مصر ملف حسن معاملة اللاجئين فى بلد تستقبل ما يزيد عن 5 ملايين لاجئ وتعاملهم كمواطنين؟ أما داخل الولايات المتحدة فتطارد كرابيج حرس الحدود الأمريكى من يطلب اللجوء أو ينتزع الأطفال من أمهاتهم المهاجرات ويضعونهم فى معسكرات منفصلة مثل أيام العبودية، وهذا التوصيف الغاضب جاء على لسان كامالا هاريس نائبة الرئيس الأمريكى، ولكن المدهش وأمام الحسابات السياسية تراجعت عن غضبها وطالبت اللاجئين بالعودة إلى بلادهم وإلا سيعادوا بالقوة.
لا أعتقد أن أى مسئول أمريكى يستطيع فتح ملف العنصرية وداخل دولته ملايين يصرخون "حياة السود مهمة" وتحديدًا مع دولة بعراقة مصر الممتد تاريخها إلى 7 آلاف عام لم تعرف فيه تمييزًا على أساس اللون والعرق بين أى من مواطنيها.
من يقرأ البيان الختامى للحوار يدرك جيدا أن المناوشات الأمريكية والألاعيب حول ما يسمى بحقوق الأقليات والحرية الدينية ولى زمانها فخلال 8 سنوات منذ ترسيخ مبادئ يونيو ومطالب جماهيرها، استعادت الأمة المصرية هويتها وروحها المصرية الأصيلة، فلا يوجد على هذه الأرض سوى مواطنين مصريين يعبدون الله فى الكنائس والمساجد، ولو انتقلنا للوضع فى الولايات المتحدة فيكفى فقط البحث على شبكة المعلومات لمعرفة حجم وكم الصراع الطائفى الدائر حاليًا والذى يصل لحد القتل وكم من المرات تم استدعاء الحرس الوطنى الأمريكى لحفظ الأمن فى مناطق الصراعات.
هذا هو المشهد الأمريكى الداخلى الذى لم يره الأغبياء ولو امتد نظرهم القاصر للإقليم لوجدوا أن مخطط إقامة كيانات الفاشية الإخوانية فى المنطقة على يد أوباما ووزيرة خارجيته عقب ما يسمى بالربيع العربى انهار بإرادة الشعوب شمالا وجنوبا وشرقًا وغربًا وكانت بداية الانهيار من هنا من مصر بإرادة الجماهير التى تحركت فى يونيو.
لم تستطع قوى الظلام ومن ورائها بسبب الغباء رؤية حقيقة الداخل الأمريكى والوضع الإقليمى فكيف سيرون المشهد الدولى العام والصراع الإمبراطورى الدائر، ورغم الحكمة المصرية فى الحركة على هذا المستوى الدولى والهدوء فى اتخاذ القرار السياسى المرتبط بهذا الصراع إلا أن جميع عواصم العالم من واشنطن إلى بكين تعلم جيدًا حجم الثقل المصرى والتاريخ العريق والفاعل والمرجح الذى تمتلكه هذه الأمة فى التعامل مع هذا النوع من الصراعات.
أمام حقائق المشهد الداخلى والخارجى بكافة مستوياته تلقت قوى الظلام ضربة ساحقة فوق ما تلقته من ضربات ولم تجد أمامها سوى الهروب إلى مكبات النفايات تبحث فيها عن ما يعاد تدويره أو إشعاله، لكن الغباء الاستراتيجى للفاشية لم يجعلها تدرك حتى الآن أنها أصبحت هى النفايات نفسها.