ودعت مصر يوم الثلاثاء 21 سبتمبر 2021 م أحد أبنائها البررة الذين نبتوا وترعرعوا على هذه الأرض الطيبة التى نشأت فيها حضارة من أقدم حضارات العالم, ولا تزال شواهدها شامخة تدل عليها, رجل شهدت له الدنيا بمآثره وتضحياته فى حب مصر, ألا وهو المشير محمد حسين طنطاوى القائد العام للقوات المسلحة المصرية, ووزير الدفاع والإنتاج الحربي الأسبق.
رغم أن الحديث عن المشير طنطاوى لمحاولة رسم صورة كاملة الملامح له من الصعوبة بمكان، إذ أن الرجل له سجل مشرف ومليء بالأحداث العظيمة والمناصب المشرفة، إلا أننا سوف نستعرض فيما يلى جزءًا من شخصية هذا الراحل العظيم.
ولد طنطاوى لأسرة مصرية نوبية فى أكتوبر عام ١٩٣٥م، وتخرج في الكلية الحربية عام 1956م، ثم كلية القادة والأركان، وشارك في صد العدوان الثلاثى على مصر فى عام 1956م، كما شارك فى حرب يونيو 1967م، وفى حرب الاستنزاف من 1967 وحتى 1970م ، وفى حرب أكتوبر 1973م حيث كان قائدا لوحدة مقاتلة فى سلاح المشاة، وبعد الحرب حصل على نوط الشجاعة العسكري ثم عمل في عام 1975م ملحقا عسكريا لمصر في باكستان، ثم في أفغانستان، وتدرج في المناصب حتى أصبح وزيرا للدفاع وقائدا عاما للقوات المسلحة في عام 1991م.
عبر بمصرإلى بر الأمان بصفته رئيسا للمجلس الأعلى للقوات المسلحة بعد تنحي الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك في 11 فبراير 2011م، وظل فى منصبه حتى إحالته للتقاعد في 12 أغسطس 2012، حيث تم منحه قلادة النيل، وعين مستشاراً لرئيس الجمهورية.
شغل طنطاوي مناصب قيادية عديدة في القوات المسلحة المصرية قبل تكليف الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك له بتولي مسئولية القيادة العامة للقوات المسلحة، فمن بين المناصب التي تولاها، قائدا للجيش الثاني الميداني 1987م ، ثم قائدا للحرس الجمهوري 1988م، ثم قائدا عام للقوات المسلحة ووزيرا للدفاع في 1991م برتبة فريق، ثم بعدها بشهر أصدر الرئيس مبارك قراراً بترقيته إلى رتبة الفريق أول، وفي 4 أكتوبر سنة 1993م أصدر الرئيس مبارك قرارا جمهوريا بترقيته إلى رتبة المشير، ووزيرا للدفاع والإنتاج الحربي.
في 11 فبراير 2011م ، عندما تنحى الرئيس حسني مبارك عن السلطة بعد 18 يوما من المظاهرات الشعبية، تسلّم المجلس الأعلى للقوات المسلحة بقيادة طنطاوي إدارة شئون البلاد، ومن الأحداث التي وقعت أثناء ذلك “حل البرلمان بإشراف رئيس المحكمة الدستورية العليا، وإجراء استفتاء على تعديل الدستور في 19 مارس 2011م، فضلا عن العديد من البلاغات ضد مبارك وشخصيات بارزة أخرى في دعوات لمحاكمتهم، بالإضافة إلى مواجهات مع الشارع المصري”.
كان الظهور الشخصي للمشير طنطاوي قليلا نسبيا منذ تسليم السلطة للمجلس العسكرى، فظهر في تخريج لفوج من أكاديمية الشرطة في 16 مايو 2011م، وترك معظم الخطابات لأعضاء مخضرمين آخرين في المجلس، كما عين رئيس الوزراء عصام شرف وحكومته، أيضا استقبل مجموعة من المسئولين الأجانب، ومنهم رئيس وزراء المملكة المتحدة ديفيد كاميرون، ووزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون.
بعد سلسلة مظاهرات في نوفمبر 2011م ، ووقوع أحداث محمد محمود، وكذلك أحداث مجلس الوزراء، وماسبيرو، والعباسية، ظهر طنطاوي على شاشة التليفزيون الرسمي، مؤكدا التعهد بإكمال تسليم السلطة إلى جهة مدنية دون تأخير، مشددا على الاستعداد لتسليم السلطة إذا أراد الشعب ذلك من خلال استفتاء شعبي.
حصل على العديد من الأوسمة والأنواط والميداليات منها على سبيل المثال لا الحصر :
نوط الشجاعة العسكري من الطبقة الثانية (بعد حرب أكتوبر)، وسام التحرير، نوط الجلاء العسكري، نوط الاستقلال العسكرى، نوط النصر، نوط تحرير سيناء 25 أبريل، نوط الواجب العسكري من الطبقة الثانية، نوط الخدمة الممتازة، ميدالية الخدمة الطويلة والقدوة الحسنة من الطبقة الأولى، ميدالية 6 أكتوبر 1973م، وغيرها.
علاوة على ذلك حصل على ميدالية تحرير الكويت من كل من الكويت والمملكة العربية السعودية، ووسام تحرير الكويت، فضلا عن الأوسمة المدنية مثل: وسام الامتياز من باكستان، ووسام الجمهورية التونسية من دولة تونس، وقلادة النيل من مصر.
يعد طنطاوى بطلا من طراز خاص، حيث خاض 4 حروب، وحافظ على مصر من الضياع، وللتدليل على ذلك نورد فيما يلى بعض النماذج من بطولاته التى اشتهر بها ويعرفها أبناء القوات المسلحة، خاصة خلال حرب أكتوبر 1973م، حيث كان قائدا للكتيبة 16 مشاة، التى حققت بطولات كبيرة خلال ملحمة عبور قناة السويس وتحرير سيناء، فقد دخل طنطاوى آنذاك فى مواجهة مباشرة مع القوات الإسرائيلية، وتحديدا مع أرييل شارون أثناء الحرب، ففى يوم 12 أكتوبر تم الدفع بإحدى الوحدات التى كان يقودها طنطاوى لتأمين الجانب الأيمن للفرقة 16 مشاة لمسافة 3 كيلومترات، كانت الفرقة قد تم إخراجها منها، وتمكنت الوحدة بقيادة طنطاوى من الاستيلاء على نقطة حصينة على الطرف الشمالى الشرقى من البحيرات المرة، وكان جنود هذه النقطة من الإسرائيليين قد اضطروا للهروب منها تحت جنح الظلام، وفى مساء يوم 15 أكتوبر كان طنطاوى وقتها قائدا للكتيبة 16 مشاة التى أحبطت عملية ، حيث تصدت بالمقاومة العنيفة لمجموعة شارون ضمن فرقتى مشاة ومدرعات مصريتين فى الضفة الشرقية، وحدث هذا فى منطقة مزرعة الجلاء المعروفة باسم “المزرعة الصينية”، حيث كبدت الكتيبة بقيادة طنطاوى الإسرائيليين خسائر فادحة.
تجلى ذكاء وتخطيط طنطاوى عندما هاجمته مدرعات العدو، عندها لم يكشف الرجل أوراقه، وقرر التحلي بالصبر، وكتم أنفاسه حتى آخر لحظة وحبس نيران مدفعيته لحين معاينة وتقدير القوة المعادية على الطبيعة، وفى اللحظة المناسبة انطلقت نيران أسلحته وقذائف مدفعيته، كما انطلق رجال كتيبته على مدرعات ومجنزرات العدو، فجعلوها أثراً بعد عين، وفشل هجوم العدو فى الوصول لقناة السويس، وأخذ يبحث عن مكان آخر بعيدا عن رجال الفرقة 16 مشاة التى كان يقودها العميد عبد رب النبى حافظ والكتيبة 16 مشاة التى كان يقودها المقدم محمد حسين طنطاوى.
أما فرقتا شارون وآدن اللتان قامتا بالمجهود الرئيسي فى إحداث الثغرة ففقدتا أكثر من 500 جندى، بالإضافة إلى قتل ضباط الصفين الأول والثانى من قادة الألوية والسرايا، وهو ما اعترف به قادة إسرائيل فيما بعد، مؤكدين أن شراسة معارك الثغرة لم تحدث فى تاريخ الحروب بعد تلاحم المدرعات المصرية والإسرائيلية، وحرق المئات من العربات المدرعة والمجنزرات.
ولم تقف بطولات المشير طنطاوى عند حدود خوض المعارك وحمل السلاح فى وجه أعداء الخارج فقط، وإنما استطاع الرجل بمنتهى الحكمة والقدرة والكفاءة أن يحافظ على سفينة الوطن من الغرق فى الفترة التى واكبت أحداث ثورة 25 يناير 2011م، بعد أن تنحى مبارك نتيجة للضغط والغضب الشعبى، وتم تكليف المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شئون البلاد.
فور تولي المجلس الأعلى للقوات المسلحة برئاسة المشير طنطاوى مسئولية السلطة فى البلاد، استطاع فى وقت قصير الحفاظ على هيبة ومكانة القوات المسلحة المصرية فى العالم، وكان الضامن الأمين للتطور الديمقراطى فى مصر، لمَ لا وهو الرجل الذى يتمتع بثقة كبيرة فى الداخل والخارج؟ وقد ألقيت عليه أعباء عهد جديد على مصر والمنطقة، ونجح فى كل الاختبارات التى تعرض لها بنجاح منقطع النظير، ورغم كل محاولات الاستفزاز التى تعرض لها الرجل وتعرضت لها القوات المسلحة فى تلك الفترة الدقيقة إلا أنه كان بمثابة حائط الصد والدرع الواقية الذى يتلقى الضربات عن الشعب.
تحية واجبة لروح هذا البطل المصرى الأصيل الذى أحب بلاده وعمل من أجلها بإخلاص منقطع النظير دون مَنّ أو أذى، كما استلهم الروح العظيمة للأمة المصرية فى كل خطواته، وكأن روحه أرادت أن ترحل ونحن نعيش الذكرى الثامنة والأربعين لنصر أكتوبر المؤزر عام 1973م.
صادق الشكر والعرفان للسيد الرئيس عبد الفتاح السيسى القائد الرمز الذى عرف قيمة وقدر القائد الفذ المشير طنطاوى فكرمه وأشاد به فى العديد من المناسبات القومية والوطنية، كما نعاه عند وفاته إلى الشعب المصرى العظيم بتأثر بالغ يدل على روحه المتوقدة وطبعه الأصيل ووفائه العظيم الذى عرف به لبلادنا العزيزة وأبنائها البررة، داعيا المولى عز وجل أن يثبته على طريق الحق وأن يحفظه ويرعاه بعينه التى لا تنام حتى يكمل مسيرة البناء والتعمير التى حققت إنجازات ملموسة وواضحة كالشمس فى رابعة النهار.
عاشت الذكرى .. وتحيا مصر