في خضم حالة من اللا يقين عاشتها مصر منذ ما بعد الخامس والعشرين من يناير 2011، حينما نزل بعض المواطنين في احتفالات عيد الشرطة لتقديم مطالبهم؛ بعضها يتعلق بالاحتياجات المعيشية وبعضها الآخر يتعلق بممارسات الشرطة.
ورغم محدودية المطالب وكذلك محدودية المشاركين في هذه التظاهرة، إلا أن الأمور تفاقمت بشكل غير مسبوق وغير محدود، إذ سرعان ما تضاعفت الأعداد وتزايدت، فضلا عن ارتفاع حجم المطالب في وقت زمنى محدود، إذ خلال ثلاثة أيام وتحديدا في الثامن والعشرين من يناير تغيرت الوجوه وتصاعدت المطالب، لتواجه الدولة المصرية بمؤسساتها واقعا مغايرا تماما؛ داخليا وفى محيطها الخارجي، الأمر الذى أعطى تفسيرات متباينة لا تزال محل جدل ومناقشة حتى اليوم في قراءة ما حدث وسرعة تطوره.
بعيدا عن هذا الجدل وتلك المناقشات، برز دور المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذى كان يرأسه في ذلك الحين المشير محمد حسين طنطاوى وزير الدفاع، إذ سارع المجلس منذ اليوم الأول في تحمل مسئوليته الوطنية في تأمين الجبهة الداخلية وحماية المتظاهرين السلميين، وإعادة الاستقرار للدولة المصرية بعد أن دخلت مرحلة من الغياب الأمنى بسبب الهجوم على المقرات والارتكازات الأمنية الشرطية، مما أدى إلى وجود حالة من الانفلات الأمني، ووضع المصريين في حالة من الخوف من المجهول. فضلا عما تعرضت له مؤسسات الدولة وأنشطتها المختلفة؛ اقتصاديا وتجاريا وتعليميا وسياحيا إلى التعطل كليةً، بسبب تلك الأحداث المتصاعدة التي كادت أن تؤدى إلى انهيار مؤسسات الدولة بصفة عامة، خاصة في ظل تنامى ظاهرة الإرهاب وانتشار التنظيمات الإرهابية المسلحة ليس فقط الداخل المصرى كما الحال في سيناء، وإنما أيضا في جوارها الجغرافى على غرار ما حدث في ليبيا وسوريا واليمن.
ومن ثم، لعب الجيش المصري بتماسكه وتلاحمه مع أبناء الوطن المخلصين دورا وطنيا يظل التاريخ شاهدا عليه وعلى أحداثه في كيفية الحفاظ على الدولة المصرية في مرحلة هي الأصعب من نوعها في التاريخ المعاصر، إذ أدرك الجيش منذ اللحظة الأولى أهمية الانحياز إلى المطالب المشروعة للشعب المصري، واعيًا لأهمية التمييز بين مطالب مشروعة يجب أن تتم تلبيتها، وبين مطالب وراءها أجندات خارجية ومصالح فئوية يجب أن يواجهها بقوة وعزم، وهذا هو ما ميز إدارة المرحلة الانتقالية التي تلت أحداث الخامس والعشرين من يناير حتى تم تسليم السلطة.
والحقيقة أن إدارة المرحلة الانتقالية برئاسة المشير محمد حسين طنطاوى رغم صعوباتها إلا أنه تمكن بمعاونة كامل أعضاء المجلس العسكرى في العبور الآمن بالدولة المصرية، مُوظفًا في ذلك خبراته العسكرية ومهاراته الإدارية وحنكته السياسية في إدارة المشهد العام بشكل احترافى ومنضبط، من خلال رسم خريطة طريق واضحة المعالم عبرت عنها خمسة بيانات أصدرها المجلس الأعلى للقوات المسلحة منذ 10 فبراير 2011، على النحو الآتى:
1- البيان الأول، صدر قبل تنحي الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك بيوم واحد، وتحديدا في 10 فبراير 2011، جاء فيه إنه: "انطلاقا من مسئولية القوات المسلحة والتزاما بحماية الشعب ورعاية مصالحه وأمنه، وحرصا على سلامة الوطن والمواطنين ومكتسبات شعب مصر العظيم وممتلكاته، وتأكيدا وتأييدا لمطالب الشعب المشروعة، انعقد اليوم الخميس الموافق العاشر من فبراير 2011 المجلس الأعلى للقوات المسلحة لبحث تطورات الموقف حتى تاريخه... وأنه قرر المجلس الاستمرار في الانعقاد بشكل متواصل لبحث ما يمكن اتخاذه من إجراءات وتدابير للحفاظ على الوطن ومكتسبات وطموحات شعب مصر العظيم".
2- البيان الثانى، جاء فيه أنه نظرا للتطورات المتلاحقة للأحداث الجارية والتي يتحدد فيها مصير البلاد، وفى إطار المتابعة المستمرة للأحداث الداخلية والخارجية وما تقرر من تفويض لنائب رئيس الجمهورية من اختصاصات، وإيمانا من مسئوليتنا الوطنية بحفظ واستقرار الوطن وسلامته، قرر المجلس: ضمان تنفيذ الإجراءات الآتية: أولا- إنهاء حالة الطوارئ فور انتهاء الظروف الحالية، الفصل في الطعون الانتخابية وما يلي بشأنها من إجراءات، إجراء التعديلات التشريعية اللازمة وإجراء انتخابات رئاسية حرة ونزيهة في ضوء ما تقرر من تعديلات دستورية. ثانيا- التزام القوات المسلحة برعاية مطالب الشعب المشروعة والسعي لتحقيقها من خلال متابعة تنفيذ هذه الإجراءات في التوقيتات المحددة بكل دقة وحزم حتى تنامى الانتقال السلمي للسلطة وصولا للمجتمع الديمقراطي الحر الذي يتطلع إليه أبناء الشعب. ثالثا- عدم الملاحقة الأمنية للشرفاء الذين رفضوا الفساد وطالبوا بالإصلاح، مع التحذير من المساس بأمن وسلامة الوطن والمواطنين. ضرورة انتظام العمل بمرافق الدولة وعودة الحياة الطبيعية حفاظا على مصالح وممتلكات الشعب.
3- البيان الثالث بمناسبة تنحى الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك وتكليف المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شئون البلاد، حيث جاء فيه :" إن المجلس الأعلى للقوات المسلحة يتطلع مستعينا بالله سبحانه وتعالى للوصول إلى تحقيق آمال شعبنا العظيم، وسيصدر المجلس الأعلى للقوات المسلحة لاحقا بيانات تحدد الخطوات والإجراءات والتدابير التي ستتبع. وإن المجلس في نفس الوقت ليس بديلا عن الشرعية التي يرتضيها الشعب".
4- البيان الرابع جاء استمرارا للمسئولية المناط بالمجلس القيام بها في ظل التهديدات التي تحاط بالدولة المصرية، حيث أكد فيها على أن:" سيادة القانون ليست ضمانا مطلوبا لحرية الفرد فحسب، ولكنها الأساس الوحيد لمشروعية السلطة في نفس الوقت، محددا مجموعة من الالتزامات على النحو الآتي: أولا- التزام المجلس بكل ما ورد في البيانات السابقة التي أصدرها. ثانيا- على كل جهات الدولة الحكومية والقطاع الخاص القيام برسالتهم السامية والوطنية لدفع عملية الاقتصاد إلى الأمام وعلى الشعب تحمل مسئوليته في هذا الشأن. ثالثا- قيام الحكومة الحالية والمحافظين بتسيير الأعمال حتى تشكيل حكومة جديدة. رابعا- التطلع إلى الانتقال السلمي للسلطة في إطار النظام الديمقراطي الحر، الذي يسمح بتولي سلطة مدنية منتخبة لحكم البلاد لبناء الدولة الديمقراطية الحرة. خامسا- التزام جمهورية مصر العربية بكل الالتزامات والمعاهدات والاتفاقيات الإقليمية والدولية. سادسا- مطالبة الشعب المصرى بالتعاون مع رجال الشرطة المدنية مع عودة شعار الشرطة في خدمة الشعب.
5- البيان الخامس، أكد فيه المجلس على حجم التحديات التي تواجهها الدولة المصرية، في ظل تكرار الوقفات الاحتجاجية من جانب البعض بما تحمله من تأثيرات سلبية على عودة الحياة الطبيعية واستكمال عملية البناء الديمقراطي للدولة المصرية، حيث أشار البيان إلى أبرز هذه التأثيرات فيما يأتي: أولا-الإضرار بأمن البلاد لما تحدثه من إرباك في كافة مؤسسات ومرافق الدولة. ثانيا-التأثير السلبى على القدرة في توفير متطلبات الحياة للمواطنين. ثالثا- إرباك وتعطيل عجلة الإنتاج والعمل في قطاعات من الدولة. رابعا-تعطيل مصالح المواطنين. خامسا- التأثير السلبى على الاقتصاد القومى. سادسا- تهيئة المناخ لعناصر غير مسئولة للقيام بأعمال غير مشروعة الأمر الذي يتطلب من كافة المواطنين الشرفاء تضافر جميع الجهود للوصول بالوطن إلى بر الأمان وبما لا يؤثر على عجلة الإنتاج وتقدمها. وجدير بالذكر أن هذا البيان هو الأهم، حيث تولى بموجبه المشير محمد حسين طنطاوى حكم البلاد، مؤكدا على مسئوليته بكلمات يظل التاريخ يسجلها بأحرف من نور، حدد خلالها تعهده على حماية مصر وذلك بقوله :"إن مصر لن تسقط أبدًا، وسوف تظل عظيمة بين الأمم، وإن رجال القوات المسلحة مع أبناء مصر، وسيعيدون بناء مصر من جديد"، مطالبًا في الوقت ذاته رجال القوات المسلحة بأن :" يعطوا المثل والقدوة في العمل والإنتاج والنظر إلى المستقبل القريب؛ لأن هذا هو السبيل لإعادة بناء مصر".
وجدير بالإشارة أن المسئولية التي حملها المشير حسين طنطاوى وكامل أعضاء المجلس العسكرى للعبور بمصر إلى بر الأمن والأمان، لا تقل عن تلك المسئولية التي سبق أن تحملها المشير طنطاوى خلال الحروب الخمسة التي خاضها في تاريخه العسكرى، بدءا من حرب 1956 (العدوان الثلاثي)، مرورا بحرب 1967، وحرب الاستنزاف، وصولا إلى خوضه ملحمة النصر في حرب أكتوبر المجيدة (1973) ودوره التاريخى في إفشال هجوم أرئيل شارون فيما يعرف بـ"المزرعة الصينية"، عندما كان قائدا للكتيبة 16، ومنع تقدم القوات الإسرائيلية المزودة بلواء مدرع ولواء مشاة، من العبور إلى الضفة الغربية للقناة، وهى المعركة التى استمرت 36 ساعة انتهت بالفشل الذريع للقوات الإسرائيلية في اختراق الكتيبة 16. هذا إلى جانب أخر الحروب التي خاضها حينما كان رئيس عمليات القوات المسلحة المصرية وهى حرب الخليج الثانية عام 1990.
ومن نافل القول إن نجاحات المشير طنطاوى العسكرية المتعددة والتي تعززت بخبرات سياسية اكتسبها خلال فترة توليه منصب وزير الدفاع المصري منذ أوائل التسعينيات وحتى عام 2012، مكنته من إدارة المرحلة الانتقالية دون أية انحرافات أو إخفاقات تُذكر. صحيح أن هناك العديد من الأحداث التي شهدت انقسامات عديدة في الشارع المصري، إلا أنه من الصحيح أيضا أن تفهمه لطبيعة المرحلة وتحدياتها، جعله قادرا على التعامل مع هذه الانقسامات بشكل أكثر مرونة وحنكة، إذ يُذكر أنه أصدر أوامره بشكل قاطع بعدم إطلاق رصاصة واحدة على الشعب المصري إبان كل تلك الأحداث رغم المحاولات المستميتة التي أقدمت عليها عناصر جماعة الإخوان الإرهابية لجر القوات المسلحة إلى الاشتباك مع أبناء الشعب المصرى، ولكن حكمة القيادة ووطنية جميع أفراد المؤسسة العسكرية أدركت هذا المخطط ونجحت في إفشاله.
يؤكد على ذلك موقف المشير حسين طنطاوى عقب إجراء الانتخابات الرئاسية عام 2012 حينما أوفى بوعده في تسليم السلطة إلى من أفرزه صندوق الانتخابات الرئاسية، مؤكدا على أن مهمته لم تكن طمعا في سلطة أو سعيا لمكسب شخصى أو الفوز بعطية، بل كانت مهمته هى الوصول بمصر إلى بر الأمان. وامتدت هذه الحكمة حينما ترك منصبه الوزاري ليعيد ترتيب أوراقه في مرحلة جديدة لم يتخل فيها عن وطنه، بل ظل مقيما في مصر يتابع عن كثب كل ما يحدث من فوضى تنشرها جماعة الإخوان الإرهابية ورجالها الموجودين في السلطة على مدار عام كامل، أنهى وجودهم بعده الشعب المصرى بتلاحمه مع جيشه الوطنى الذى جاء ملبيا لنداء أبناء الشعب في ضرورة حماية الدولة من سياسة الجماعة التي حاولت أن تقزم مصر ومكانتها، فكانت ثورة الثلاثين من يونيو 2013 إيذانا بإعادة الانطلاق من جديد لاستكمال طريق البناء الذى ناشده الشعب المصرى منذ يناير 2011، وكان المشير حسين طنطاوى من أوائل المهنئين للشعب المصرى وجيشه الوطنى على هذا الإنجاز بإزاحة حكم الجماعة وعودة الدولة المصرية إلى حضن أبنائها، وظل المشير طنطاوى داعما ومساندا لكافة السياسات التي انتهجتها الدولة المصرية حتى قبل انتخاب الرئيس عبد الفتاح السيسى الذى كان يعلم مكانة المشير طنطاوى وقيمته الوطنية وخبراته العسكرية ومعارفه السياسية، فكان في الصفوف الأولى للمدعوين في كافة الاحتفالات التي تقيمها الدولة المصرية عرفانا وتقديرا لدوره الوطنى المخلص، فضلا عن إطلاق اسمه على كثير من المشروعات القومية، بل والعسكرية أيضا كان آخرها ما أعلنه الرئيس عبد الفتاح السيسى:" بإطلاق اسم المشير حسين طنطاوى على قاعدة الهايكستب العسكرية تقديرا واحتراما لدور هذا الراجل العظيم في تاريخ مصر".
خلاصة القول إن الكلمات التي نعى بها الرئيس عبد الفتاح السيسى المشير حسين طنطاوى حينما ذكر أنه:" بطلا من أبطال حرب أكتوبر المجيدة ساهم خلالها في صناعة أعظم الأمجاد والبطولات التي سُجلت بحروف من نور في التاريخ المصري... قائداً … ورجل دولة تولى مسئولية إدارة دفة البلاد في فترة غاية في الصعوبة تصدى خلالها بحكمة واقتدار للمخاطر المحدقة التي أحاطت بمصر"، تعد هذه الكلمات من أصدق ما قيل تعبيرا عن الدور الوطنى الذى لعبه المشير حسين طنطاوى على مدار نصف قرن، قدم خلالها الكثير من التضحيات لوطنه. رحم الله المشير طنطاوى وأسكنه فسيح جنانه.