حالة من الحزن أحاطت بمحبى الفنانة سهير البابلى فور الإعلان عن خبر رحيلها، رغم ابتعادها سنوات تجاوزت العشرين عن الفن، إلا أن الجمهور الذى أحبها فى جميع أعمالها التى تجاوزت المائة والخمسة والعشرين، سواء فى الإذاعة والمسرح أو السينما والتليفزيون، أحس بغياب جوهرة من عَقد الفن المصرى استطاعت أن تصنع عالمها الخاص وأداءها الذى يبهرنا لنتساءل: كيف صنعت كل هذا لتصول وتجول بين خشبات المسرح وتمنحنا ساعات من المتعة المبهجة؟
قد يتعجب الجمهور عندما يتذكر أعمال الفنانة سهير البابلى التى رحلت عن عالمنا عن عمر يناهز ٨٦ عاما، فتارةً يراها حزينة وأخرى شريرة وثالثة باسمة، وكأنها تتجول بين المشاعر الإنسانية فتحلّق بالشخصيات نحو مساحات أخرى رأتها "هى"، فمن ذا الذى يرى "سكينة" السفاحة بهذه الصورة المبهجة، ومن يتصور "بكيزة هانم" على هذه الحالة من الفقر المبتسم، أو "الأستاذة عفت" وسط المشاغبين، ومن يتصور أن يرى لحظة استقالة "عالمة" ذرة!
بين شخصيات تجاوز عددها المائة بكثير تجولت سهير البابلى منذ الخمسينيات، حيث بدأت بالأعمال المسرحية الكلاسيكية والمسلسلات الإذاعية التى شكلت جانباً من موهبتها، انطلقت نحو "الشخصيات" التى لا يمتلك الجمهور أن يكرهها فى شرها أو يحبها أو يتعلق بها، فهو ينظر إليها بانبهار، فقد كانت تجيد صنع المسافات بينها وبينهم، فلا يمكنك إلا أن ترفع القبعة لتلك الفنانة التى استطاعت المرور بين أكثر من ٤٥ فيلما و٢٦ مسرحية و٢١ مسلسلا تليفزيونيا لتصنع حالة فى كل عمل تغادرها سريعاً نحو أخرى.
على الرغم من المشوار الذى ارتبط بخشبة المسرح فى مجموعة من الأعمال جعلتها لا تخشى الاختيارات التى قد يخاف غيرها أن يفاجىء الجمهور بها، كانت البدايات المسرحية التى سجلت أولى الخطوات بين مسرح الدولة العالمى الذى أثقل موهبتها ومنحها جرأة الاختيار والتحدى، لتأتى مسرحية "نرجس" وكأنها سهير ذاتها تلك المتأرجحة بين الماضى الذى يجذبها والمستقبل الذى تراه فتشعر بالخوف منها فتكتفى باللحظة، وفى تلك الأثناء تطل علينا بمجموعة من الأفلام تتطور فى اختياراتها وكأنها تسعى للوصول إلى حالة بداية التحاقها بدراسة التمثيل والموسيقى فقد كانت تعرف أنها تستطيع.
تنوعت الأعمال ليراها الجمهور مع "المشاغبين" فى مدرسة كانت انتقاله مسرحية واجتماعية فى ذلك الوقت، واستطاعت أن تحافظ على مساحة "أبلة عفت" الخاصة، وتزداد الأعمال والتألق لتصنع البهجة فى مسرحية "ريا وسكينة" لتدير "سكيننه" تحول مسار "المشاغبين" وتتحول نحو "الهانم" الفقيرة التى لا تمتلك سوى عنجهية تمارسها على "زغلول"!
على مدى مشوار سهير البابلى كانت المفاجآت ما بين المسرح والتليفزيون على الرغم من انتصارها للسينما كماً وكيفاً، لكن المسرح سمح لها بالتجلى على خشبته فهو عشقها "الأول" وقد يبدو ذلك واضحاً فى الثمانينيات، حيث اختارت مساحتها الخاصة المسرحية لتقطف من كل كاتب "وردة" تتألق بها وتزين مشوارها وتنتقل بين المخرجين، كذلك لتتألق مع هذا وتلمع مع ذاك، ولتشارك الجميع التألق فتضئ مع إسعاد يونس وتنتشى مع شادية فهكذا كانت "نحلة" تدرك قيمة الأزهار فتلتقط أجمل مافى كل منها وتعيده إلى الجمهور فناً خاصاً بسهير البابلى يحمل توقيعها الذى يختلف فى كل مرة ويعيدنا إليها فننتظر جديدها الذى لا ينضب.
رحم الله الفنانة سهير البابلى التى أمتعتنا بكل الشخصيات وجعلتنا نحبها "هى" مهما كان الدور أو فريق العمل، فقد منحتنا دوماً مساحة من "البهجة" والرقى الذى نفتقده هذه الأيام.