تحل اليوم ذكرى رحيل الكاتب الصحفي والشاعر والروائي جليل البنداري، ذلك العبقري الذي استطاع أن يصل إلى القمة في عدة مجالات بأسلوبه الفريد في الكتابة الصحفية والشعر الغنائي وكتابة القصص والسيناريو والحوار للعديد من الأفلام التي حققت نجاحا كبيرا .. كما اشتهر بأسلوبه النقدي البديع ولسان سليط يخشاه كل نجوم الفن .. في ذكراه نروي أغرب عزومة تلقاها البنداري .. وهي عزومة دفنه في المقابر، كما رواها البداري بنفسه في بابه الأسبوعي "ليلة السبت" بجريدة أخبار اليوم في 14 مايو 1960.
دق جرس الهاتف في الثالثة قبل الفجر في بيت جليل البنداري، وكان المتصل هو المطرب الفنان محمد الكحلاوي، الذي طلب من البنداري أن يرتدي ملابسه بسرعة ، وسيكون في انتظاره أمام بيته بعد خمس دقائق، وكان البنداري دائما شغوف بمعرفة أسرار النجوم، فله كتاب بنفس الإسم، فربما اعتقد أن هناك أسرارا جديدة أو انفراد فني سيحققه، لذا ارتدى ملابسه بسرعة وركب مع الكحلاوي في سيارته التي دلفت إلى حي مصر القديمة ومن خلف جامع عمرو بن العاص انحرفت السيارة إلى الجبل وسارت بهما بين الهضاب والمرتفعات حتى وصلا إلى منطقة خلف الإمام الشافعي.
توقف الكحلاوي بالسيارة أمام أحد المدافن الحديثة التي قد بناها بنفسه، وفتح باب المدفن وطلب من البنداري أن ينزل معه إلى داخل المقبرة، ودهش البنداري من ذلك الطلب، لكن لا خيار أمامه إلا تنفيذ رغبة صديقه الكحلاوي وليعرف أيضا سر هذه الزيارة .. وأشعل الكحلاوي شمعة ودعى البنداري لرؤية المقبرة من الداخل، فقد بناها الكحلاوي حديثا على الطراز العربي، وسبق البنداري إلى النزول في المقبرة.
ظلت الدهشة تتملك جليل البنداري، الذي نزل بخطى بطيئة إلى داخل المقبرة ، وهنا سأله الكحلاوي:
ــ غيه رأيك؟
ــ في إيه؟
ــ أنك تتدفن معايا هنا؟
وكانت تلك هي أغرب عزومة يتلقاها جليل البنداري في حياته، ثم مضى الكحلاوي يقول:
ــ إن هذه أجمل تربة يمكن أن ندفن فيها معا.
فسأله البنداري: ولماذا اخترتني أنا بالذات لأدفن معك؟
فرد الكحلاوي بسرعة: لأني أخاف من النوم وحدي في الظلام!
ولم يرد عليه البنداري بل آثر الصمت، وصعدا من المقبرة وركبا السيارة، وفي طريق العودة تحدث الكحلاوي عن قضيته التي رفعها لإثبات إن لحن أغنية "يا مصطفى يا مصطفى" هو نفس لحن أغنيته "فضلك يا سايج المطر"، وكان المغني بوب عزام المصري صاحب الجذور الصعيدية قد سجل أغنية "يا مصطفى"، وحققت أرباحا طائلة في أوربا، مما دعى الموسيقار محمد فوزي أن يسارع برفع دعوى ضد بوب عزام بأن اللحن من تأليفه ، لأنه قد سجل نفس الأغنية بنفس اللحن للمغني برونو شقيق الفنانة داليدا منذ ثمانية أشهر، وأكد فوزي أيضا أنه ألف ذلك اللحن منذ 15 عاما عندما كان يعمل في الملاهي الليلة في الأسكندرية .. فرفع الكحلاوي دعوى ضد محمد فوزي بأنه صاحب اللحن وليس محمد فوزي.
وعاد الكحلاوي بالسيارة عند الفجر إلى بيت جليل البنداري الذي نزل هم بالنزول فباداره الكحلاوي بالسؤال:
ــ ما رأيك في هذه النومة الملوكي؟
فرد عليه البنداري:
ــ من الأفضل أن تدخل الكهرباء في هذه التربة، لكي تستطيع النوم وحدك .. أما أنا فلا أريد النوم مع أحد في تربة واحدة.