الأحد 19 مايو 2024

مؤسسة تخلق الذات الجماعية

14-6-2017 | 13:55

بقلم –   د. سامح فوزى

المواطن فى المجتمع دائمًا يجد نفسه أمام طريقين: أحدهما «خاص» والثانى «عام». وبين الطريقين تدور شئون السلطة والمجتمع. هناك دول تحقق التوازن بين الخاص والعام، وأخرى تفتئت على الخاص لصالح العام، وثالثة تقزم من العام لصالح الخاص.

هناك مؤسسات وكيانات وجماعات تفرز الخاص وتعززه. هناك المال الخاص أو رأس المال الخاص الذى يبحث عن الربح، وكل ما يسعى إليه المجتمع إقناعه بما يعرف بالمسئولية الاجتماعية. وهناك مؤسسات دينية تقوم فى المقام الأول على خدمة المعتقد الدينى والمؤمنين به حتى وإن طورت لنفسها إطارا وطنيا، وهناك الأسرة، والعائلة، والقبيلة، والقرية، .... إلخ الكل يتحدث عن الخاص، الذات.

 

بالطبع التوازن بين العام والخاص مطلوب، ولكن حتى يتحقق ينبغى أن تقوم مؤسسات تفرز الثقافة الجمعية، المشتركة بين المواطنين، وتخلق فى أذهانهم أهمية الوطن الذى يجمع المواطنين كافة فى رحابه. أهم هذه المؤسسات هى المدرسة، والجهاز الإداري، والجيش، ولكن يظل بالطبع أهمهم، والأكثر فعالية فى المجتمع هى المؤسسة العسكرية.

ثقافة المواطنين

الهوية الجمعية هى نتاج شعور أفراد المجتمع بالمشتركات بينهم، وهو الشعور الذى يغذى جملة من المفاهيم التى يلتئم حولها المواطنون: الصالح العام، الخير المشترك، مشروعات النفع العام... وغيرها. خروج المرء من الإحساس المفرط بالمصالح الخاصة، والعمل مع غيره من المواطنين لتحقيق الصالح المشترك هو نتيجة مباشرة للإحساس بالهوية الجمعية. 

هناك فى المجتمع كيانات تعزز شعور المرء بذاته، مصالحه الخاصة، هويته الذاتية مثل الأسرة والعائلة والجماعة الدينية والانتماء الجغرافي. كل ذلك يُسمى الروابط الأولية أو التقليدية التى ينتمى إليها الفرد بسبب صدفة الميلاد. ويطلق علماء الاجتماع عليها رأس المال الجامع الذى ينتج فى نفوس الأفراد الإحساس بالتضامن ولكن لخدمة أنفسهم فى مواجهة الآخرين. وإذا سادت الانتماءات الأولية على حساب الروابط المشتركة بين المواطنين تفشى الصراع الاجتماعى وساد الخاص على حساب العام. فى بعض الدول لا تجد كيانات تجمع المواطنين كافة إلا فى حدود ضيقة فى الوقت الذى يغلب الخاص فى كل شيء، وقد يعيش المرء جانبا كبيرا من حياته لا يعرف سوى القبيلة أو العشيرة أو أهل الملة أو الطائفة. وعلى حد تعبير البعض «لا يبرح الفرد طائفته من المهد إلى اللحد. يولد بها، ويسمى باسمها، ويتزوج منها، ويعمل فى أروقتها، ثم يدفن فى مقابرها».

هناك مشتركات ينبغى أن تقوم حولها المجتمعات وهو ما يعرف بالهوية الجمعية التى يكتسبها الأفراد من خلال مؤسسات التعليم والمؤسسة العسكرية والجهاز الإداري، فى هذه المؤسسات يأتى المواطنون مختلفين من خلفيات متنوعة اجتماعية وثقافية ودينية وجغرافية حيث يتعلمون العمل من أجل الوطن الكيان الأكبر الجامع. وتراهن المجتمعات على هذه المؤسسات فى زرع الصالح العام فى نفوس المواطنين.

عثرات مؤسسات «التنشئة»

هناك مؤسسات يأتيها البشر مختلفين، وتقوم هى بزرع الهوية المشتركة. هى المدرسة والجهاز الإدارى الحكومي، والمؤسسة العسكرية.

المدرسة تعلم الأطفال المنهج المشترك، والجهاز الإدارى يحكمه القواعد الموحدة التى يطبقها الموظفون الذين يختلفون فى أشياء كثيرة لكن مكاتبهم متجاورة، ويعملون معا.

أما المؤسسة العسكرية فهى النواة الصلبة للمجتمع، يأتيها البشر، كل من خاصته، يتعلمون فيها كيف يدافعون عن وطن واحد مشترك، يجمعهم جميعا.

فى المجتمع المصرى ينبغى أن نعترف أن كثيرا من مؤسسات التنشئة أصابها الكثير من أوجه الترهل، ولم يبق منها متماسكا سوى المؤسسة العسكرية.

المدرسة رغم أنها مؤسسة التنشئة الأولية على الهوية الوطنية تعانى من عدة مشكلات:

أولا تعدد أنظمة التعليم فى مرحلتى ما قبل الجامعة ثم الجامعة مما يؤثر على عملية التنشئة الوطنية. هناك تعليم حكومى وهناك تعليم أزهرى وهناك تعليم أجنبى وهناك تعليم خاص؛ وكشفت دراسات عديدة أن لكل منها تداعيات مغايرة على الهوية الوطنية. 

ثانيا زحف الفكر المتطرف إلى مناهج التعليم، والحياة فى أروقة المؤسسة التعليمية وبالأخص المدرسة وهو ما يطلق عليه علماء التربية «المنهج الخفي». ونتذكر أنه منذ مطلع التسعينيات تحتل هذه القضية اهتمام دوائر عديدة خاصة بعد أن تبين أن هناك مدارس ترفض تحية العلم، وأخرى تطبق مناهج إضافية خاصة بها تشيع أفكار التطرف،فضلا عن اختراق الكتب المدرسية ذاتها، وإنتاج صور نمطية سلبية عن الآخر الديني. هناك معركة بالفعل منذ سنوات لتعديل مناهج التعليم، وبث روح الوطنية من جديد فى المقررات المدرسية، لكن المسألة تتجاوز تغييرات إجرائية فى المناهج، مما يتطلب التوسع فى مفهوم التربية المدنية بمعناه الواسع، حيث من خلال مشاركة الطلاب فى النشاط الاجتماعى والثقافى والتنموى يكتسبون دفئا وقربا من موارد الدولة، وتنشط فى داخلهم الرغبة لصونها، والذود عنها.

ثالثا وجود شريحة من المعلمين بالمدارس وأعضاء هيئات التدريس بالجامعات لديهم انتماءات مباشرة بجماعات الإسلام السياسى، ولاؤها فى المقام الأول للجهات المرجعية التى تنتمى إليها أكثر من المؤسسة التعليمية التى يعلمون فيها.

أما الجهاز الإداري، فقد أصابه هو الآخر أمراض عديدة. منها ما جاء إليه من منتج المؤسسة التعليمية، الخريج الذى لا يعرف الآخر، ويفتقر إلى الروح الوطنية الجادة. يضاف إلى ذلك غرق الجهاز الإدارى فى رعاية مصالحه الذاتية ربما على حساب صالح الدولة، نجد المحسوبية، والفساد، وتأثير علاقات العزوة والقربى والانتماء الجغرافي، وحرص الموظفين على تحقيق صالحهم حتى لو أدى ذلك إلى عرقلة خطط التنمية، أو إضعاف السياسات العامة فى الدولة. ولا يخفى بالطبع أن الجهاز الإدارى ذاته شأن الكثير من مؤسسات المجتمع مرتع للخلايا النائمة من جماعات الإسلام السياسي.

مؤسسة «الصالح العام»

المؤسسة العسكرية لا تزال رغم كل الصعوبات والتحديات التى ألم بها المجتمع المصرى هى الأكثر إدراكا للصالح العام، وتحقيقا لمشروعات النفع العام، والقدرة على استيعاب الوطن بمفهومه الشامل.

إذا قورنت المؤسسة العسكرية بما حدث فى المؤسسات التعليمية والإدارية فإن المسألة تبدو واضحة أن المؤسسة العسكرية أفلتت من الكثير من العثرات التى ارتبكت فيها هذه المؤسسات. دورها فى التنشئة الوطنية واضح، فهى المؤسسة التى تصوغ الوجدان العام للمصريين. يأتى إليها المواطنون مختلفين فى كل شيء، لكنها تخلق فى داخلهم شعورا بالصالح العام، والوطنية المصرية. بالطبع هناك مشكلات وتحديات تواجهها، فهى ابنة مجتمع ملئ بالتحديات والعثرات، ولكن تظل هى الأكثر قدرة على تحقيق اللياقة المؤسسية، والتعامل الاحترافى مع التحديات، والإنجاز فى وقت يسير.

أولا تضم كل فئات المجتمع على تنوعهم، ريفا وحضرا، غنيا وفقيرا، مسلما ومسيحيا، رجالا ونساء، هى مؤسسة المصريين جميعا.

ثانيا التقدير الشديد لمفهوم الوطنية، فهى جيش وطني، لا تحركها نوازع المليشيات، ولا تغلب عليها الطائفية التى مزقت العديد من جيوش المنطقة، تعرف جيدا أنها مؤسسة المصريين، وهدفها هو المجتمع المصري.

ثالثا النظرة الأوسع لخدمة المجتمع باختلاف فصائله. لا تخدم فصيلا بعينه. تقدم خدماتها لكل المواطنين وفى مقدمتها خدمة الدفاع عن الوطن، يضاف إليها مهام تنموية تقدمها لكل المصريين. تبنى كنيسة مثلما تبنى مسجدا، تبنى طرقا مثلما تبنى بيوتا، تبنى مصنعا مثلما تمسك سلاحا.

المؤسسة العسكرية هى المؤسسة الأساسية لإنتاج المشتركات الوطنية. الكل يلبس نفس الزي، ويحمل نفس المظهر، تختفى تنوعه وفرادته فى إطار إنتاج الواحد الوطني. تجربة مهمة. إذا تداعت المؤسسة العسكرية- لا قدر الله- فإن ذلك إيذان بخراب البلاد والعباد فى بر المحروسة، من هنا تستهدف الاتجاهات المعادية الجيش لأنها تدرك أنه حجر الزاوية فى الهوية الجمعية لهذا المجتمع، إذا تداعى، دبت الفرقة، والصدام، والتبعثر فى صفوف المجتمع، وساد فيروس التفكيك فى أوصاله حتى يقضى عليه.