الخميس 21 نوفمبر 2024

مقالات

عملاقان في نفس الزمان

  • 12-12-2021 | 15:20
طباعة

في نهاية القرن الرابع عشر الميلادي، وعلى أرض المحروسة - مصر- عاش اثنان من العمالقة الذين قدموا للإنسانية ما لا يمكن أن يُنسى في مجالات متشابهة ومتقاطعة ومشتركة في نفس الوقت.

 

ابن خلدون والمقريزي، وكما هو معروف أن ابن خلدون هو مؤسس علم الاجتماع الذي أرسى قواعده في موسوعته التي كتبها على سبيل التقديم لكتابه المسمى "العِبَر وديوان المبتدأ والخبر في معرفة أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر"، وكما هو واضح من اسم الكتاب الطويل أن ابن خلدون أراد أن يجمع ما قام به من دراسات وأبحاث وما شاهده في أسفاره وما عاشه من عمر امتد لأكثر من سبعة عقود في تلك المؤلفات بعدما اعتزل كل شيء واستقر به المرسى في مصر، لكن تلك المقدمة التي ألّفها وتمّ فصلها عن الكتاب الذي كتبها كمقدمة له، قد نالت تلك الشهرة الواسعة عربيا وعالميًا حيث تُعد مقدمة ابن خلدون موسوعة في الكثير من المعارف التي يتم الاستناد إليها في الكثير من المجالات حتى يومنا هذا، فقد تناول فيها ابن خلدون مجموعة من الأسس والنظريات التي ساهمت في جعله المؤسّس الحقيقي لعلم الاجتماع، فقراءة تلك المقدمة تؤدّي لاستنتاج ثلاثة مفاهيم أساسية، وهي أن المجتمعات البشرية تمضي وفق قوانين محددة يمكن من خلالها بالتنبّؤ بالمستقبل في حال دراستها بشكلٍ جيد، وأن هذه القوانين يمكن تطبيقها على المجتمعات التي تعيش في مختلف الأزمنة، كما أن علم العمران لا يتأثر بالحوادث الفردية، بل بالمجتمعات ككل، ولا بد من الإشارة هنا إلى أنه توصل للعديد من النظريات المدهشة حول نظرية العصبيّة وقوانين العمران، وأطوار الدولة، وسقوطها، فحُفظت نظرياته، وأثبتت صحتها بعد وصول العديد من علماء العالم لنتائجها في وقت لاحق.

 

وبالرغم من أصول ابن خلدون الأندلسية ونشأته في تونس، إلا أنه تنقل بين العديد من الدول والممالك حتى استقر به الحال في مصر التي عاش بها نحو ربع قرن من الزمان، ثم توفي ودفن في ترابها عام 1406م.

 

في نفس التوقيت كان المقريزي - المؤرخ المصري الأشهر كان يقوم بمهمة مشابهة لما يقوم به ابن خلدون، فقد دوّن في مؤلفاته ما قام به من قراءات ودراسات تاريخية جعلت منه من أهم أعلام التاريخ، الذين قطعوا شوطاً بعيداً في حدود الفكر والمعرفة، والبحث في أصول البشر وأصول الديانات، حتى تبوء مكانة عالية بين المؤرخين المصريين على مدار التاريخ، حيث أن معظم المؤرخين الكبار كانوا تلاميذ المقريزي، مثل ابن تغري بردي مؤلف الكتاب التاريخي (النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة)، والسخاوي صاحب كتاب (الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع) وغيرهم من المؤرخين.

 

وقد كان كتاب المقريزي (السلوك لمعرفة دول الملوك) الأول بين كتب التاريخ في عصره، كما أن من مؤلفاته أيضاً كتاب (عقد جواهر الأسفاط من أخبار مدينة الفسطاط)، الذي تناول فيه المقريزي تاريخ مصر خلال الفترة التي امتدت منذ الفتح العربي إلى مرحلة ما قبل تأسيس الدولة الفاطمية، وكتاب (اتعاظ الحنفاء بأخبار الخلفاء) حول تاريخ مصر في زمن الدولة الفاطمية، وكتاب (إغاثة الأمة بكشف الغمة) الذي يتحدث فيه عن تاريخ المجاعات في مصر وأسبابها، وغير ذلك العديد من المؤلفات التي يتم الاستناد إليها في كل الأحداث التاريخية التي حدثت في تلك الحقب الزمنية والتي عكف على كتابتها حتى وافته المنية وتم دفنه في تراب مصر عام 1445 م.

 

لكن ما يثير الدهشة في أمر هذين العملاقين غير تزامنهما أنهما تعاملا مع نفس السلطان المملوكي الظاهر برقوق، الذي أحسن إليهما، كما أنهما اتخذا من القاهرة مقرًا لإقامتهما ومركزًا للإشعاع العلمي الذي تخصصا فيه، رغم كثرة الترحال والأسفار، فقدما للبشرية تلك المراجع التاريخية الفريدة والمعدودة التي ظلت وستظل الركائز الأساسية لهذه العلوم الإنسانية إلى اليوم وغدًا.

 

وإذا كانا قد اجتمعا في عصر واحد ليبدعا ما خلّفاه وراءهما من علم، فها هما الآن يلتقيان معًا في هذه السطور تذكيرًا بما تركاه من تراث خالد سيبقى ما دامت الحياة.

الاكثر قراءة