نحن فى مسيس الحاجة لفحص أفكارنا ومعتقداتنا، كى نفهم مصدر الأفكار الكامنة داخل رءوسنا، من أين جاءت؟ وكيف تكونت؟ وهل نحن الذين نملكها أم هى التى تملكنا؟ وعلينا أن نفرز الصائب من الباطل منها، ونميَّز بين الجيد والرديء. فإذا كانت الفكرة جيدة نُبْقِيها، أما إذا كانت رديئة فنطرحها جانبًا؛ لأن أفكارنا ومعتقداتنا هى التى تحركنا، تأمل سلوكك وأفعالك ستجدها جميعًا مسبوقة بفكرة طرأت على ذهنك دفعتك أن تسلك على هذا النحو دون غيره. من المؤكد أنك قبل أن تشرع فى قراءة هذا المقال طرقت ذهنك فكرة أن تقرأه، وبعد أن تفرغ من قراءته سوف تفكر قبل أن تتحرك من مكانك فى الخطوة التالية التى ستقوم بها، وهكذا تحركنا أفكارنا. لا ريب أننا إذا امتلكنا أفكارًا جيدة فسوف نسلك على نحو طيب، أما إذا كانت الأفكار التى داخل رءوسنا رديئة فسوف نسلك على نحو سيئ.
كل إنسان يتمسك بمجموعة أفكار ومعتقدات ظنًا منه أنها بالغة الاتساق والتماسك، وأنه توصل إليها بعد تفكير وروية. يعتقد المرء أن كل فكرة من أفكاره وكل معتقد يؤمن به، إنما هى أفكار ومعتقدات أصيلة ومتينة، ويتعامل معها بوصفها فكرته هو، ويتوهم أن ما يؤمن به من معتقدات إنما اعتنقها وآمن بها بعد تأمل طويل وعميق، وأنه توصل إلى هذه الأفكار والمعتقدات بنفسه، بل قد يصل الحال بالشخص إلى الاعتقاد الجازم بأن أفكاره ومعتقداته واضحة وضوحًا ذاتيًا، وأنها ترقى إلى درجة البدهيات والمسلمات بما تتحلى به من وضوح وصواب. بل إن البعض يعتقد فى تلك الأفكار والمعتقدات اعتقادًا راسخًا إلى درجة الاستعداد للموت فى سبيلها، حتى إننا نجد من يفجر نفسه إيمانًا بما يعتمل فى عقله من أفكار شوهاء واضحة الفساد.
من أين جاءت هذه الأفكار؟
فى واقع الأمر، يُوْلَد الإنسان وعقله أشبه بصفحة بيضاء، ثم يبدأ فى الامتلاء خطوة خطوة بمرور الوقت منذ اللحظات الأولى للميلاد حتى سكرات الموت الأخيرة.
إن ما يصادفنى من أحداث ووقائع، وما يحيط بى من ظروف وأحوال، يختلف عما يحيط بك ويصادفك، ومن هنا ينشأ التنوع والاختلاف بين البشر، هذا الاختلاف الذى قد يصل إلى حد الخلاف والتطاحن والاقتتال.
إذا أدركنا أن أغلب أفكارنا ومعتقداتنا ليست أفكارنا ومعتقداتنا نحن، بل هى أفكار أناس آخرين حرصوا على زرعها فى رءوسنا؛ لأنها غُرِسَت فى رءوسهم بواسطة آخرين... وهكذا. إذا أدركنا ذلك بوضوح ازددنا تسامحًا، وزاد إيماننا بحق الآخر فى أن يختلف مع ما نؤمن به من أفكار ومعتقدات.
تسربت إلى عقولنا أفكار كثيرة، وغُرِسَت فى رءوسنا حين كنا أطفالًا نفتقر إلى القدرة على الفحص والفرز والتحليل، حين كنا أطفالًا كنا لا نملك تفكيرًا مستقلًا أو تأملًا نقديًا حرًا.
فى كل بيت مصرى يوجد كائن بشرى صغير (طفل أو طفلة) يقترب عمره من الثالثة أو الرابعة، وقد يكون أكبر أو أصغر قليلًا. ونحن الكبار (الأب والأم والشقيق والشقيقة والأصدقاء والأقارب والجيران) نتصرف بتلقائية على مرأى ومسمع من هذا الطفل أو الطفلة، نضحك أو نبكي، نغضب أو نهدأ، نصرخ أو نصمت، نغنى أو نندب... إلخ، نفعل كل ما يحلو لنا على مرأى ومسمع من أطفالنا، ولا نعيرهم التفاتًا ما دام الطفل يلهو ويلعب فى هدوء، وقد نغفل أنه موجود أصلًا فى حين أنه يشاهد ويراقب ويسجل كل ما نقول أو نفعل، مثله مثل كاميرا الفيديو أو كاميرا المحمول مثلًا، الفارق الأساسى والجوهرى بين الطفل والكاميرا، أن الطفل يسجل ويتأثر ويتشكل ويتغير. هذا هو الكائن البشرى الصغير الموجود فى كل بيوتنا، وقد يكون ولدًا أو بنتًا.
ولنرصد سويًا مشهدًا يكشف عن كيفية وصول الأفكار إلى رءوسنا فى مرحلة مبكرة من عمرنا، دون إرادتنا وفى غيبة من وعينا، بصوابها أو بطلانها قبحها أو حسنها:
دق جرس الباب، ذهبت الأم لفتح الباب، وأدركت أن ابنتها «سهام»- وليكن هذا اسم الابنة- هى من بالباب، تدلف الابنة من الباب، وتتجه إلى غرفتها فتستوقفها الأم ويدور بينهما الحوار الآتي:
الأم: أين كنتِ طوال هذا الوقت؟ وكيف سمحتِ لنفسكِ أن تبقى خارج المنزل حتى هذا الوقت المتأخر من الليل؟
سهام: يا ماما .. يا ماما من يسمع حضرتك يظن أن الفجر أوشك على البزوغ، فى حين أن الساعة الآن لم تتجاوز العاشرة مساءً.
الأم: أنتِ عايزة تفضلى بره البيت حتى الفجر؟ هذا ما ينقصنا! الساعة الآن التاسعة والنصف مساءً، وقد أظلمت الدنيا وتأخر الوقت. ماذا سيقول عنا الناس حين يشاهدونكِ عائدة إلى المنزل ليلًا.
سهام: يا ماما، أنتِ عارفة أننى كنت فى عيد ميلاد صاحبتي، وقد أخبرتكما أنتِ وبابا، وحصلت على إذن منكما بالذهاب. ثم إن أحمد (أحمد هذا هو شقيقها الذى يصغرها بعام واحد، وهو أيضًا طالب جامعي) عاد إلى المنزل الأسبوع الماضى بعد منتصف الليل، ولا ندرى أين قضى ليلته، ومع ذلك لم يعاتبه أحد أو يعاقبه!!
الأم: أحمد؟! أنتِ حتعملى رأسكِ برأس أحمد؟ طيب أحمد «رجل»، وأنتِ بنت.
فى تلك اللحظة التى يتابع فيها الكائن البشرى الصغير (شقيق أحمد وسهام أو شقيقة أحمد وسهام) هذا الحوار بلهفة واهتمام وتركيز واضطراب، فإنه إذا كان ذلك الطفل «بنتًا» فسوف تشعر بالدونية والخزى لمجرد أنها خُلِقَت «أنثى»، أما إذا كان «ولدًا» فسوف يملؤه الفخر والاعتزاز لمجرد أنه خُلِقَ «ذكرًا». ثم تترسخ فكرة التمييز بين الرجل والمرأة فى مجتمعنا، ويروج القول بأن الرجل أفضل من المرأة، والذكر أرقى من الأنثى. ولذلك نجد أستاذة جامعية حاصلة على الدكتوراه تدافع عن دونية المرأة تجاه الرجل، تتخذ هذا الموقف وتدافع عنه بشراسة رغم كونها «أنثى»، هذا الموقف من جانب تلك الأستاذة الذى ينطوى على مفارقة واضحة، وتناقض صارخ إنما نشأ نتيجة تسرب فكرة التمييز بين الرجل والمرأة إلى عقل تلك الأستاذة وهى طفلة، ونمت الفكرة وترسخت حتى صارت اعتقادًا. هكذا تتسلل الأفكار إلى عقولنا فى غفلة منا، ونظن أنها أفكارنا نحن، ولا يساورنا أدنى شك فيها، نتخاصم ونتقاتل من أجلها، وتجرى أنهار من الدماء من أجل أفكار حُشِرَت فى رءوسنا حشرًا دون إرادة منا.
الحقيقة التى يجب أن الإقرار بها هى أن أفكارنا تحركنا، ومن ثمَّ ينبغى أن نفحص أفكارنا ومعتقداتنا حتى تستقيم حياتنا.
أستاذ المنطق وفلسفة العلوم بآداب عين شمس