د. رضوى زكي - باحثة أكاديمية مصرية
"لا أعرف مدينة أروع من القاهرة؛ فإن السائر في تلك المدينة التي تنتشر فيها رائحة القرون الوسطى يروعه كل مشهد للترف المُسرف إلى مشهد للفقر المدقع. حيث تتصادم في القاهرة البهجة والآلام".
كلمات عبر بها المستشرق والرسام الفرنسي "بريس دافين" عن مشاعره تجاه هذه المدينة الكبرى التي عاش فيها وعايش واقعها. فرسمها بصورة تنبض بالحياة، كلمات موجزة تصف بوضوح تناقضات وتجليات تلك المدينة. هي قاهرة واحدة في العالم كله تتألق في جلال ووقار على ضفاف النيل العظيم. حيث لا توجد مادة مثيرة للإلهام والإبداع والخيال الأخاذ أكثر من القاهرة وحكايات أماكنها وعمارتها. هي مدينة وكأنها نشأت ليُكتب عنها، وترسم، وتُروى قصتها ذات الفصول المتلاحقة، مترابطة حينا، وأخرى تبدو متقطعة الأوصال، بينما هي في الحقيقة فصل سرمدي من فصول التاريخ في أرض الشرق.
هي مصر القاهرة كما سماها علي باشا مبارك مهندس القاهرة التوفيقية ومؤرخها وصاحب خططها الجديدة، فالقاهرة في عيون الوافدين هي مصر بكل ما تحمله الكلمة من زخم وسعة وشمول، كما يجرى على ألسنة عامة الناس أن اسم العاصمة "مصر" اختصار واختزال للدولة متسعة الأطراف في كيان العاصمة الكبرى فسيحة الأرجاء.
القاهرة هذه المدينة العتيقة، يصعب الحديث عنها وفي حضرتها. عن قاهرة العصور والأزمان والبشر كتبت آلاف الصفحات التي تنسج قصة العاصمة وحكاياتها التي لا تنتهي، حكايا تُقدر بعدد أهلها، وبوقع ما مر بها من أحداث ووقائع، كم شهدت المدينة من انقلاب صفحات الزمن، وتعاقُب الحكام، وسطوة خرافات البشر.
مسميات شوارع القاهرة قطعة من تاريخها. شارع الحوض المرصود، شارع بين القصرين، شارع بيت القاضي. وغيرها من أسماء تجري على ألسنة الناس لواقع يرتبط بالمكان. فيرتبط الاسم بالمسمى، حتى وإن زال الحجر؛ يغدو الاسم أيقونة تاريخية لها ما للعمارة والمكان من أهمية وقيمة، قبل أن يأمر والي مصر محمد علي باشا سنة 1847 بتسمية الشوارع وترقيم المنازل كما نعهدها اليوم، ففقدت كثير من الشوارع شخصيتها المعمارية والتاريخية المميزة، وإن بقيت في ألسنة أهلها وعقولهم حاضرة.
تتمثل في المدينة بحق ما يُسمى بـ "الحركة السابعة". أي حركة الزمن ودورانه على موضع بعينه. فكم من بقعة على أرض القاهرة شهدت وجود معبد مصري. فكنيسة مسيحية. فمسجد. وجميعها كانت للمصريين بيوت عبادة.
ولم تمر حركة الزمن على العمائر وحسب؛ بل هي أرض كأن مسها السحر، مدينة اتخذت اسمها من النجم الذي بزغ في سمائها يوم وضع حجر أساسها، بإرادة من خليفة فاطمي جاء من بلاد المغرب واختطها سكنا له ولعشيرته عام 358 هجري 969 ميلادي. ثم خرجت القاهرة عن وقارها وأسوارها، وفتحت الأبواب لأهلها، فامتد تخطيطها. مدينة آخذة في النمو والاتساع، ضمت بين جنباتها عواصم مصر قبل الإسلام، أخذت في طريقها مدينتي منف وعين شمس. وضمت الفسطاط والقطائع والعسكر؛ عواصم مصر الإسلامية قبل ظهور القاهرة المعزية، وما جد واستُحدث بعد إنشائها من ضواح وشوارع وحارات، وبقيت هي بعد ما ابتلعت كل ما سواها. مدينة تماثل دولا منفردة في اتساعها، وكثرة أهلها، وعظم بنيانها، وتنوع معمارها.
مصر القاهرة التي شغفت الكثيرين من أبنائها حبا فدونوا خططها؛ أي تاريخ عمارتها وعمرانها وحكايات تطور الحياة بين أحيائها ودروبها، وما اعتراها من أوجه التغير بالزيادة والنقصان، بالهدم والبناء، بالتغيير أو التجديد أو الطمس أو الاندثار. وكأن "كتابة الخطط" لون من ألوان الكتابة التاريخية خُصص لهذه المدينة الغراء. ما السحر الجاذب لها على وجه الخصوص؟ أهو التراث الثري من عمائر وآثار تبث في روح الإنسان ذكرى الأقدمين؟ أهي الأبنية العتيقة أم مظاهر الحياة القاهرية؟ ربما الخليط المعماري المهيب بين مآذن وقباب بيوت الله على كثرتها، والأهرام بشموخها وعزتها حين تمتزج وتتعانق متجهة نحو السماء!
ما سر المدينة التي تتسم بارتجالية العمران، تمتد لتلحق بالنيل الذي يغير مجراه تارة، وتخضع لهوى حُكامها وأمرائها حين يقرروا هجر ضاحية وإنشاء أخرى بدلا منها تارة أخرى. ربما كان السر والسحر في ذاكرة الأمكنة، ليست العمائر والمباني وحسب، ولا الشوارع التي تحمل الوقائع والذكريات بين جدرانها وشقوقها، بل هي العلاقة بين الحجارة والبشر في كل أشكالها وارتجالها. حكايات وأساطير، وقائع وشخوص ارتبطت بأماكن مرت عليها صفحات الزمان. فما التاريخ إلا اجتماع الزمان والمكان والبشر، وكانت مصر القاهرة هي المكان، وحاضرة الزمان، ومأوى البشر من كل جنس ولون، فسُميت "أم الدنيا" لكثرة الخلائق التي تموج بهم وتضمهم في زحامها الزائد على الحد.
في هذه المدينة يختلط الواقع بالمُتخيل. تمضي في شوارعها فتأخذك الأماكن. لا تفصح تلك المدينة بأسرارها سوى لمن يحسن الإنصات، حينها تعلو أصوات الشوارع والأحجار لتروي القصص المخبأة، بل أحيانا تعيد عليك القصص القديمة، فتراها من زاوية أخرى خارج متون التاريخ، وخرائط الجغرافيا، وبلاغة الأدب. هي خير تجسيد للصلة الحميمة بين التاريخ والجغرافيا حيث يرتبط المكان والزمان. فحين تمر على المكان تستحضر الحدث ويعلو همس الحكايات.
هنا على جبل يشكر دار حديث بين المعماري وصاحب المسجد الذي قال: "أريد أن أبني بناء إن احترقت مصر بقي، وإن غرقت بقي". فما هي إلا سنوات بعد هذا الحديث واحترقت أرض القطائع بأكملها، باستثناء بيت لله أخلص صاحبه "أحمد بن طولون" في نيته، فبقى على حين احترقت المدينة.. وعلى البقعة نفسها ابتهل سلطان مصر المنصور حسام الدين لاجين إلى الله تعالى مختبئا في المئذنة الملوية. ونذر أن يجدد عمارة المسجد المهجور إن نجاه الله من الموت المحقق.. فصدق هو الآخر في وعده مع الله.
يصطف العامة في جزيرة الروضة، يرتدون أبهى ثيابهم، يجلسون في خيام تطل على شاطئ النيل، الزينات معلقة، والمغاني تُطرب السمع، والشموع تزيد المشهد بهاء. يمر موكب الخلفية الفاطمي أمام مقياس النيل في انتظار يوم وفاء النيل بنذره ليغمر مصر بالمياه. بشائر بالرخاء والخير. ينزل قاضي المقياس ممسكا بإناء يحوي المسك والزعفران الممزوج بماء الورد في حوض المقياس ليمسح على العمود بتلك التركيبة. وفي اليوم التالي بعد التأكد من وفاء النيل يأمر الخليفة بإشارة منه فيكسر السد الذي يحجز المياه، وينساب الماء في الخليج، ليتم بذلك جبر الخليج. وتقع المبالغة بين أهل مصر في إظهار الفرح والمسرة.
تقرر المضي لتقف أمام مبنى شامخ، مهيب وباذخ، أيكون معبدا شيده قدماء المصريين؟ إنه معبد لكنه "معبد الإسلام"، مسجد السلطان حسن حيث أصوات الريح التي تصفر في حضرة مدخله المرتفع. لا صوت يعلو على صوت السكون. إنه "الموت الأسود أو وباء الطاعون". المرضى بداخل المسجد في سياج خشبي معزولين. وقلة من الناجين!
من أمام الجامع الأزهر تسمع أصوات شيوخه وعلمائه تعلو في اعتراض. وعلى مد البصر يقف الأزهري الشامي "سليمان الحلبي"، لم يرض أن تطأ "خيل الفرنساوية" أرض الأزهر الشريف. فينقض على القائد "كليبر" ليقتله!
تواجهك قلعة الجبل، مقر حُكام مصر لقرون طويلة. ضجة وجلبة، الخيول تقفز من كل حدب وصوب. أصوات تعلو طالبة الرحمة وأخرى تتلو الشهادتين. وقائع انتهاء سطوة المماليك للأبد من أرض مصر على يد محمد علي.
سيحالفك الحظ إن مررت بميدان الأزبكية عشية الاحتفال بالمولد النبوي الشريف. الاستعدادات قائمة على قدم وساق بحضور جمع غفير من الطرق الصوفية والعامة من المسلمين والمسيحيين على السواء؛ فالحُصر مفروشة، والخيام منصوبة، وحضر الحواة والمشعوذون وبائعو الحلوى. حتى الغوازي. إنها مظاهر الاحتفال عند المصريين بمولد حبيب الرحمن!
ولتكن الجولة الأخيرة في "وسط البلد" أو قل بالأحرى "القاهرة الإسماعيلية" قديما، فأرجع البصر لترى قاهرة حاكم مصر الخديو إسماعيل "باريس الشرق"، أرادها قطعة من أوروبا. المسارح، ودار الأوبرا، والكتبخانة المصرية، المتحف المصري. والعمائر الفارهة. خديو مصر الذي قرر خلع رداء العصور الوسطى عن القاهرة المحروسة، واستحضر الأجانب لحياكة ثياب أوروبية الطابع، اهتمت بالمظهر وليس الجوهر. تراث معماري وعمراني، يظل غريبا مستوردا، لا يشبه شخصية وجوهر المدينة الإسلامية.
تظل المدينة تخاطب زوارها وساكنيها بحكايات ماضيهم وثقافتهم ومعتقداتهم. في "مصر القاهرة" تتنسم عبق التاريخ، وتقف وجها لوجه أمام عتبات الأسطورة، وتنغمس لقدميك في ونس حياة أهل مصر الشعبية، مدينة الألف مئذنة، والألف حكاية. وكما قال ابن خلدون في القرن التاسع الهجري حين عاش في مصر القاهرة: "ومن لم يرها لم يعرف عزة الإسلام".