الأربعاء 19 يونيو 2024

كتاب مفكر روما الأشهر شيشرون في أحدث ترجمة إلى اللغة الإنجليزية في مديح الشيخوخة

20-6-2017 | 16:58

فتحي أبو رفيعة - كاتب مصري

     سمعت أول ما سمعت عن كتاب مفكر وخطيب روما الأشهر ماركوس توليوس شيشرون خلال ستينيات القرن العشرين، حينما كنت طالبا في جامعة الإسكندرية، وكان يدرس لنا اللغة اللاتينية أستاذ فاضل هو الدكتور محمد محمود السلاموني. ولا تزال ذاكرتي تحمل صور الدكتور السلاموني وهو يشرح لنا بعض تعابير شيشرون عن الشيخوخة وكيف أن الموت في الصبا أشبه بانتزاع ثمرة من شجرتها قبل نضوجها، على عكس الوفاة في سن الشيخوخة حيث تسقط الثمار من نفسها بعد نضوجها.

        وقد صدرت ترجمات قليلة إلى الإنجليزية لكتاب شيشرون، آخرها الترجمة التي أصدرتها جامعة برنستون بالولايات المتحدة عام 2016 تحت عنوان How to Grow Old? أو بمعنى آخر: "كيف تغدو عجوزا" أو "الطريق إلى الشيخوخة". وقد طبعت الجامعة الكتاب باللغتين اللاتينية والإنجليزية على صفحات متقابلة مع مقدمة ضافية للبروفيسور فيليب فريمان، رئيس قسم اللغات القديمة في كلية لوثر بجامعة ديكوراه، ولاية أيوا الأمريكية.

        من خلال قراءة سريعة لأطروحة شيشرون يتبين للقارئ على الفور أنه يمكن إعطاؤها عنوان "في مديح الشيخوخة" لما تتضمنه الأطروحة من سرد لمزايا هذه المرحلة من العمر. وفي مقدمته الضافية لهذه الأطروحة، يقول البروفيسور فريمان إن هناك دروسا قيمة يمكن للمرء استخلاصها من تجربة شيشرون مع الشيخوخة. ولخص فريمان هذه الدروس في عدة نقاط منها ما يلي: أن الشيخوخة الجيدة تبدأ في مرحلة الشباب؛ وأنه يمكن للشيخوخة أن تصبح جزءا رائعا من العمر؛ وأن للحياة فصولها المناسبة التي يتعين علينا أن نعيشها حسب مقتضيات هذه الفصول؛ وأن كبار السن لديهم الكثير مما يلقنونه للشباب؛ وأن الشيخوخة لا تنكر علينا أن نتمتع بحياة ناشطة، لكن علينا أن نقبل بما تنطوي عليه من أوجه قصور. ويرى شيشرون أن هناك مغالاة في تقدير دور الجنس في مرحلة الشيخوخة؛ ويدعو المسنين إلى زراعة حديقتهم بأنفسهم في فصل يخصصه لمباهج الزراعة.

        في السطور التالية مقتطفات من مقدمة البروفيسور فريمان الضافية عن سيرة شيشرون، تليها فقرات من أطروحة شيشرون نفسها.

  من المقدمة

1

  لم يكن عام 45 قبل الميلاد عاما سعيدا بالنسبة إلى ماركوس توليوس شيشرون. فقد كان الخطيب الأشهر ورجل الدولة المرموق في روما في أوائل العقد السابع من عمره، وكان وحيدا بعد أن انفصل منذ بضعة أعوام عن زوجته ذات الثلاثين ربيعا وتزوج زوجة أصغر سنا، ما لبث أن طلقها على الفور. وفي مطلع ذلك العام، توفيت ابنته المحبوبة توليا، ما دفعه إلى حالة من اليأس والقنوط. وكان قد فقد مكانته في طليعة رجال السياسة الرومان قبل ذلك بأربع سنوات حينما عبر يوليوس قيصر نهر روبيكوني وأرغم الجمهورية الرومانية على الدخول في حرب أهلية. ولم يكن بوسع شيشرون أن يؤيد القيصر، وبالتالي، فبعد أن وقف في البداية في مواجهة الدكتاتور الجديد وحصل في نهاية المطاف على عفو عام أشعره بالمهانة، انسحب إلى ضيعته الريفية، وظل هناك بعيدا عن روما كرجل وحيد يعيش حياته وأفكاره دونما أي نفع يقدمه للعالم.

2

   ولكن شيشرون، بدلا من أن يستهويه الإفراط في الشراب والإقدام على الانتحار كما فعل صديقه كاتو الأصغر، فضل التحول إلى الكتابة. فقد كان في شبابه طالبا نجيبا في الفلسفة اليونانية وتمنى أن يكون له دور بارز في عالم الأدب عبر قيامه بشرح أفكار كبار المفكرين الإغريق من أمثال أفلاطون وأرسطو وغيرهم لبني وطنه. وكان شيشرون بطبعه ميالا للمعتقدات الرواقية المتعلقة بالفضيلة والنظام والعناية الإلهية في مواجهة ما اعتبره أفكارا محدودة وتقوم على الانغماس في الشهوات والملذات كتلك التي أخذ بها الأبيقوريون. ومن هنا فقد شرع في الكتابة. وفي خلال وقت قصير للغاية، ومن خلال العمل منذ الصباح الباكر حتى أواخر الليل، أنجز الكثير من الأطروحات حول موضوعات تتعلق بالحكم والأخلاق والتعليم والدين والصداقة والواجبات الأخلاقية.

3

   وقبل اغتيال يوليوس قيصر في منتصف مارس من عام 44 قبل الميلاد، تحول اهتمام شيشرون إلى موضوع الشيخوخة وكتب أطروحة قصيرة بعنوان "عن الشيخوخة"، أو

 De Senectute.

ولئن كانت أعمار البشر في العالم القديم، كما هو الحال في العالم الحديث، يمكن أن تكون قصيرة، فإننا نحيد عن الصواب لو افترضنا أن المعدلات العمرية في اليونان أو روما كانت قصيرة بالضرورة. وعلى الرغم من أنه من العسير قياس معدلات العمر في العصور القديمة كما أن معدلات وفيات الأطفال والرضع كانت بالتأكيد عالية، فإن الرجال والنساء لو بلغوا سن الرشد فإنهم يحظون بفرصة طيبة لأن يبقوا على قيد الحياة إلى عمر الستين أو السبعين أو حتى بعد ذلك.

مقتطفات من الأطروحة

   "حينما أفكر في الشيخوخة، يمكنني أن أجد أن هناك أربعة أسباب تجعلها بالغة التعاسة: الأول، أنها تبعدنا عن ممارسة النشاط، والثاني أنها تضعف أجسامنا، والثالث أنها تحرمنا تقريبا من جميع ملذاتنا الحسية، والرابع أنها تقربنا من الموت. فدعونا، لو سمحتم لي، نلقِ نظرة على كل سبب من هذه الأسباب، على حدة، لنرى ما إذا كانت صحيحة أم لا.

الحياة النشيطة

  "دعونا ننظر أولا في الزعم القائل بأن الشيخوخة تحرم الإنسان من الحياة النشيطة. فعن أي نوع من الأنشطة نتحدث؟ ألا نعني بذلك الأنشطة التي نشارك فيها ونحن شباب أقوياء؟ ولكن من المؤكد أن هناك أنشطة تناسب عقول الأشخاص الأكبر سنا حتى وإن أصاب الوهنُ الجسد. ألم تكن هناك أعمال مهمة قام بها كوينتوس ماكسيموس الذي أشرت إليه من قبل، وقام بها لوسيوس باولوس، والدك أنت بالذات يا سكيبيو، وكذلك والد زوجة ابني، أعز الرجال؟ وماذا عن الشيوخ الآخرين أمثال فابريسيوس وسيوريوس وكوريونكانيوس؟ ألم يكونوا يعملون وهم يستخدمون حكمتهم ونفوذهم في حماية بلدهم؟

  "إن آبيوس كلوديوس لم يكن فقط عجوزا لكنه كان أيضا ضريرا ذاهب البصر حينما كان يتكلم أمام مجلس الشيوخ الذي كان يؤيد معاهدة سلام مع بيروس، ملك أيبريا. ومع ذلك، فإنه لم يتردد في أن ينطق بالكلمات التي رددها إينيوس شعرا، والتي تقول:

   أي جنون أصاب عقولكم التي كانت يوما رزينة وصامدة، فجعلها تحيد عن صوابها؟

   "إن الذين يقولون إنه ليست هناك أنشطة مفيدة تتعلق بالشيخوخة يجهلون ما يتحدثون عنه. إنهم كهؤلاء الذين يقولون إن القبطان لا يفعل شيئا مفيدا لكي تبحر السفينة لأن هناك آخرين يتسلقون القلاع ويجرون عبر الممرات ويشغلون المضخات بينما هو يجلس مستريحا في قمرة السفينة ممسكا بدفتها. فهو وإن كان لا يقوم بما يقوم به البحارة الأصغر سنا إلا أن ما يقوم به هو أهم وأقيم. فالأفعال العظيمة لا يقيم أداءها بما استخدم فيها من قوة وسرعة ورشاقة بدنية لكنه يقيم بالحكمة وقوة الشخصية والحكم المتزن. وتتوفر هذه الصفات للأشخاص في شيخوختهم بل إنها تنمو وتزداد ثراء مع مرور الوقت.

   "وخلال حياتي خدمت كجندي عادي، وكضابط مبتدئ، وأخيرا، حينما أصبحت قنصلا، كقائد عام. وحيث إنني لم أعد أحارب في الحروب، ربما تظنان أني أصبحت لا أفعل شيئا. ولكن مجلس الشيوخ ينصت لي حينما أتكلم عن الحروب التي يجب خوضها وكيف نخوضها. وحتى الآن، فإنني أرنو إلى المستقبل وأخطط لشن الحرب على قرطاج. إن مخاوفي إزاء هذه المدينة لن تهدأ أبدا إلا إذا عرفت أنها دمرت عن بكرة أبيها.

   "سيقول البعض إن الذاكرة تخبو على مر السنين. إنها تخبو بالطبع إذا لم تدربها وما لم تكن خارق الذكاء في المقام الأول. لقد حفظ ثيموستوكليس عن ظهر قلب أسماء جميع المواطنين في أثينا. فهل تعتقد أنه في شيخوخته صار يخلط بين أريستيدس وليزيماكوس وهو يحييهما؟ أنا نفسي أتذكر ليس فقط الأشخاص الذين يعيشون حاليا ولكن أيضا آباءهم وأجدادهم. وحينما أقرأ ما كتب فيهم من رثاء، لا يساورني الخوف من فقدان ذاكرتي كما تقول الخرافات، ولكني أسترجع ذكرياتهم مجددا. ولم أسمع مطلقا عن أي مصاب بالشيخوخة نسي المكان الذي خبأ فيه نقوده! فالمسنون يتذكرون دائما ما يهمهم، كمواعيد مثولهم أمام المحكمة، أو أسماء دائنيهم أو مدينيهم.

   "وماذا عن المسنين من المحامين، والقسس، والمنجمين، والفلاسفة؟ وما أكبر حجم المعلومات التي يتعين عليهم أن يتذكروها! ويتمتع المسنون بعقول سليمة ما داموا حريصين على التعلم والمثابرة. ويصدق ذلك ليس فقط على الشخصيات العامة ولكن أيضا بالنسبة إلى الأشخاص الذين يعيشون حياة عادية بسيطة. وقد ألف سوفوكليس تراجيدياته وهو في شيخوخته. وحينما بدا أنه يهمل الإنفاق على أسرته بسبب شغفه بالكتابة، جرَّه أبناؤه إلى المحاكم لتجريده من أهليته بحجة عدم السلامة العقلية (فقد كان لديهم مثلنا قوانين تتيح فرض هذه العقوبات على أرباب الأسر الذين يسيئون إدارة شؤون أعمالهم). ويقولون إن سوفوكليس قرأ على هيئة المحكمة مسرحيته "أوديب في كولونا" التي كان قد انتهى لتوه من كتابتها، ولم يكن حتى قد راجعها، وسأل الحضور بعد أن انتهى من قراءتها إن كان ما سمعوه يشي بأنه عمل رجل مخبول. وعلى الفور أفرجت عنه المحكمة إثر الانتهاء من قراءته.

  "ومن الواضح أن سوفوكليس لم يكن لتردعه الشيخوخة شأنه في ذلك شأن هوميروس أو هيسيود أو سيمونايديس أو ستيسيكوراس أو المفكريْن اللذين أشرت إليهما من قبل سقراط وجورجياس، ناهيكم عن فلاسفة بارزين مثل فيثاغورث وديمقريطوس وأفلاطون وزينوقراط أو من جاءوا بعدهم مثل زينو وكليانتش أو ديوجين الرواقي اللذين شاهدتموهما كليهما في روما. ألم يعش كل هؤلاء حياة نشطة حافلة بالعمل طيلة حياتهم؟

 الجسم والعقل

   "إنني لم أعد أتمنى قوة الشباب ـ وهي الاعتراض الثاني على الشيخوخة الذي تضمنته القائمة ـ بأكثر مما كنت أتمنى في شبابي أن أتمتع بقوة الثور أو الفيل. فعلى الناس أن يستعملوا قوتهم بما يتناسب مع أعمارهم. ولعله ليس هناك ما يبعث على الرثاء في هذا الصدد أكثر مما يروى عن ميلو الكروتوني. فذات يوم، وحينما كان يشاهد في شيخوخته مصارعا شابا، وهو يتدرب على حلبة السباق، ويقال إنه نظر إلى عضلاته هو وراح يبكي قائلا: "عضلاتي هذه، ميتة الآن". لكنها لم تمت مثلك أيها الأحمق!! فشهرتك لم تنبع أبدا منك، ولكن من قوة جوانحك وذراعيك.

ملذات العيش

   "نتحول الآن إلى الاعتراض الثالث على التقدم في العمر، ألا وهو خفوت حدة الملذات الحسية. ولكن لو كان هذا صحيحا، فإنني أقول إنها حقا جائزة مجيدة أن تحررنا الشيخوخة من أشد عيوب الشباب تدميرا.

لا مدعاة للخوف من الموت

   "علينا أخيرا أن ننظر في الاعتراض الرابع على تقدم العمر، وهو اعتراض يبدو أن المقصود به إثارة القلق والحزن لرجل في مثل سني. إنني أتحدث عن دنوّ الموت. وحينما يتقدم العمر بالمرء، فليس هناك من شك في أن الموت ليس ببعيد.

   "ما أتعسه حقا ذلك الرجل الذي لم يدرك عبر حياته الطويلة أن الموت ليس بالأمر الذي يتعين عليه أن يخشاه. فالموت إما أن يدمر الروح البشرية تماما، وهو في هذه الحالة أمر لا يستحق الاهتمام؛ وإما أنه يأخذ الروح إلى مكان تخلد فيه إلى الأبد، وهو في هذه الحالة أمر مرغوب فيه. وليس هناك احتمال ثالث".

    ويختتم شيشرون أطروحته بالعبارة التالية: "تلك هي، يا صديقيَّ الشابين، أفكاري عن الشيخوخة. وأتمنى لكما كليكما أن تعيشا ما فيه الكفاية لكي تتحققا منها ولكي تثبت لكم تجربتكم صدق كلماتي."